Friday, April 26, 2013,04:51
المُكاتبات - الأولى
زمّلينى يا امرأةُ، ولا تتركينى لشحوبِ الزمنِ، فأصفرّ؛ إنى أخشى أن أتساقطَ مع ضرباتِ الخريفِ، والقلبُ فى الشتاءِ بردانٌ غيرُ بارد. ضُمِّينى ولاشينى؛ فقد سئمْتُ التواجدَ، وغيّبينى؛ فقد أرهقنى الحضورُ، غيّبينى فى بياضِكِ اليمامىِّ، وفى ذهبِ حنطتِكِ؛ ليسعفَنى صوتى بنشيدِ الإنشادِ؛ لقد تعبْتُ من حكمةِ الجامعة.
كونى الشوكةَ التى فى اللحمِ، وخُزِّينى عنيفا حتى تطعنى الكبدَ؛ ففى الألمِ بُرئى من جراحاتى التى تُطيرُ حمائمَ السكينة. انثرى القمحَ عَلّها تنجذبُ إلى الخرائبِ، وتحطّ على جدرانِ روحى المنكسرةِ بتعاقبِ النصالِ، والنصالُ فى الأفقِ تسدُّ عينَ الشمسِ يا امرأةُ وزخاتِ المطر. راقصينى فى وحشيةٍ؛ لننفضَ ترابَ ما كان؛ ونحتضنَ الآتى عراةً فى قُبلةٍ منهومةٍ، وقبِّلينى مليّا؛ فقد نسيتُ طعمَ القُبَلِ، ودفقَ الدمِ فى الشفاهِ إذ ترتعشُ حارّةً بالحبِّ المكتمل.
أعيدينى إلىّ؛ فقد أوحشنى ما تاه منى فى الدروبِ، وما سقطَ منى فى الطرق. الطرقُ متعرجةٌ يا امرأةُ؛ فاشكرى الإلهَ الذى جمّعنا فى المفترق – كم كان بنا رحيما – وارسمى شعاعا يبدأ ها هنا ولا نعرفُ نهايتَه. أقيمى فى البدايةِ؛ فالنهاياتُ موجعةٌ، كلُّ النهاياتِ موجعةٌ، واحفظى لنا بكارةَ الأشياءِ؛ أجملُ الحبِّ أولُهُ، وأجملُ الشوقِ أولُهُ، وأجملُ اللقاءِ أولُهُ؛ فدُقِّى خيمةً فى أولِ الأشياءِ، ومُدِّيها بامتدادِ شعاعِنا، ومُدِّيها باتساعِ جُرحِنا، ومُدِّيها فى براحِ حلمِنا، ولا تبرحيها؛ كى لا تتساقطَ فوق رأسى العُمُدُ؛ إنى أخافُ أن تتساقطَ فوق رأسى العُمُد.
Monday, April 22, 2013,01:21
نثر .. ندب .. شعر
نَثْر:
وأمى غافلتنى – وأنا مطمئنٌ لها – فأرضعتنى الحزنَ فى الحليبِ، حتى استعاضَتْ به عظامى عن الكالسيوم، ودبّتْ فى القلبِ الهشاشة. لماذا لم تدسِّى الفرحَ – يا أمُّ – خلسةً – فى كوافيلى المبللةِ؛ لأنتقعَ فيه بردفىّ حتى أصحوَ باكيا من تقرحاتِ البهجة؟
نَدْب:
وردفاى مبلولان بأسىً وجودىٍّ لا يستطيعان إفلاتا من شَرَكِ ملابسى الداخليةِ، وملابسى الداخليةُ مُلغزةٌ حدّ انعصارِ الروح، تَسْمُكُ حينًا، وحينًا تشفُّ حتى تكاد تبين.
شِعْر:
(1)ثلاثونَ عامًا وما زلتُ أحبو، ولم أفهمِ المسألة
ثلاثونَ عامًا أفتشُ فى القلبِ .. فى الكُتْبِ .. فى الناسِ ..
أوغلُ فى البرِّ والبحرِ ..
أصعدُ فى الجوِّ ..
ثم أشقُّ الطريقَ إلى باطنِ الأرضِ ..
نقَّبتُ فى الشعرِ والجبرِ والفلسفاتِ ..
لبستُ المسوحَ ..
تعلمتُ رصدَ الكواكبِ ..
حاربتُ حتى انتصرتُ وحتى انهزمتُ ..
وضاجعتُ ألفًا سكبتُ عليهنّ خمرَ السؤالِ ..
لعلى ألاقى الإجابةَ فى العرقِ المتفصدِ ..
أعلو كموجةِ بحرٍ لأهمدَ ..
أعلو كموجةِ بحرٍ لأهمدَ ..
فى دورةٍ مؤلمة
وما زلتُ أحبو ولم أفهمِ المسألة
ثلاثونَ عامًا بلغتُ من العلمِ ما يفضحُ الآنَ جهلىَ ..
صادفتُ بعضَ الإجاباتِ لكنّ روحىَ لم تطمئنّ ..
فكلُّ جوابٍ يثيرُ المزيدَ من الأسئلة
(2)أنا ابنكَ يا أيها الكونُ عنكَ ورثتُ الحياةَ وحبّ الحياةِ ..
فكيف تقابلُ وجهى بأبوابكَ المقفلة
أنا ابنكَ يا أيها الكونُ فى أولِ الطيشِ قلتَ "تهيمُ ثلاثينَ عامًا ..
تصاحبُ وحشَ الفلاةِ ..
وتأكلُ من حصرمِ الوقتِ ..
ثم تعودُ وقد أنضجتكَ التجاربُ بالحكمةِ المثقلة"
أنا الآنَ أجثو أمامكَ والقلبُ يبكى التشردَ فى الأرضِ والوقتِ ..
قلتَ "تهيمُ ثلاثينَ عامًا" فهِمْتُ ..
وقلتَ "تصاحبُ وحشَ الفلاةِ" فصاحبتُ ..
قلتَ "وتأكلُ من حصرمِ الوقتِ" حتى شبعتُ ..
ولما رجعتُ وجدتُ التجاربَ قد أتخمتنىَ بالعجزِ ..
ما زلتُ طفلًا يبعثرُ أشياءَهُ ..
ويجاهدُ كى يفهمَ الأبجديةَ ..
أين علاقتُنا الأبويةُ يا كونُ أين علاقتُنا الأبويةُ ..
كيف استبحتَ السؤالَ ..
وكيف كتمتَ الإجابةَ عن هذهِ المعضلة
أنا الآنَ يا كونُ فى اللحظةِ الفاصلة
أنا الآنَ فى اللحظةِ الفاصلة
Tuesday, April 16, 2013,22:15
إنجى
وإنجى تجىءُ إذا الليلُ جَنّ
لتدفىءَ قلبى
وإنجى تجىءُ إذا البردُ حلّ
لتدفىءَ قلبى
وإنجى تراودُنى فى البنفسجِ بالمعجزاتِ الصغيرةِ
تحملُ فى كفِّها الأقحوانَ وباقاتِ وردٍ
فيندغمانِ
أنا الشوكُ وَهْىَ البتلاتُ حين يحطُّ عليها الفَراشُ الملونُ
ما أوسعَ الحُلمَ
ما أضيقَ الوقتَ
ما أحزنَ الأغنياتِ التى تترددُ بينى وبينكِ
ما أقصرَ الرحلةَ المُرتجاة
وإنجى تضوعُ برائحةِ البرتقالِ
وتفرشُ من شعرِها خيمةً
نلتقى تحتها فى جحيمِ الخرافةِ
تصبحُ إيزيسَ
أُصبحُ أوزيرَ
تجمعنى من أقاليمِ نفسى
وتبعثُ فىّ الحياة
وإنجى تعذّبنى بالغيابِ الذى لا يلينُ مدىً
ثم تُقبلُ فى أولِ القمحِ
محلولةَ الشعرِ عاريةَ الصدرِ
يكشفُ ما ترتدى عن بساتينِها الأنثويّةِ
تومى لقلبى ليتبعَها
مثلَ طفلٍ تبدّى له مَلَكٌ فى الحَكايا
فتدهشُهُ بالهدايا
ويحملُنا الماءُ فى مركبِ الشمسِ صوبَ الأساطيرِ
تلثمُنى بين عينىّ
تمسحُ كلّ التجاربِ
أرتدُّ أبيضَ مثلَ حصانٍ تعلّمَ من فورِهِ الحبوَ
أصهلُ بالفرحةِ المُشتهاة
Monday, April 15, 2013,07:49
فى الثلاثين .. أسئلة ومشاريع - الرابعة عشرة
"شيخُنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيّأهم، فما استطاع". هكذا يعقّب الحافظ أبو بكر بن العربى على شيخه الغزّالىّ، وما كان من حاله مع الفلاسفة. ولو كان لى أن أضيف إلى مقالة ابن العربى، لذيـّلتها بسؤال بلاغى يقصد إلى النفى، فقلتُ: من يستطيع؟
وأنا لم أستطع، وإن كنتُ قد عمدتُ إلى قليلِ الفلسفةِ الذى قرأته بوعى يقظ أردتُ له أن يقوم كحائط من فولاذ بين تكوينىَ العقلىّ والوجدانىّ وبين مقولات الفلسفة المغوية ومذاهبها؛ لأكتشف أن يقظتى لم تكن سوى وهم، وأن للـ "فكرة" قدرةً مذهلةً على النفاذ إلينا قسرا، وعلى نحو غير شعورى؛ حتى ليشبه تسللُها إلينا تسللَ الرياء كما ورد فى الأثر: أخفى من دبيب النملة السوداء فى الليلة الظلماء على الصخرة الصماء.
ولعل غياب هذا التأثر – فيما يذهب سيد قطب فى معالمه – أن يكون واحدا من أسباب عدة أدّتْ إلى تميز الرعيل الأول من المسلمين الذين اقتصرتْ مصدريةُ تلقيهم على الوحى: قرآنا وسنة، قبل أن يحتك خَلَفُهم بثقافات وافدة كثقافتى فارس واليونان؛ لنجد غضبةَ النبى محمد من فعل عمر الذى أصاب شيئا من التوراة فقرأه، وكان مما قاله النبى: والذى نفسى بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية.
ثم كان ما كان من اختلاط المسلمين بمنطق الإغريق ونشوء علم الكلام، حتى بلوغ اليوم الذى صار عاديا فيه – عاديا تماما – أن تجد مسلما ليبراليا، ومسلما ماركسيا، ومسلما حلوليا... إلخ، ليستحيل الإسلامُ مائعا يتشكل فى أى كوب يوضع فيه. وقد تأتّى كل ذلك بقلب اتجاه المعادلة من الدوران مع أدلة الأحكام حيث دارت؛ قصدا إلى النتيجة، أيا ما كانت، إلى تبنّى الفكرة الوافدة ابتداءً، ثم التأصيل لها – عسفا –؛ إضفاءً للشرعية والمشروعية؛ لتصبح الأدلة – التى هى الأصلُ – خبرَ الجملة لا مبتدأَها، وذلك إلى الحد الذى انبنت معه كثرةٌ من نظراتنا فى التراث على الوافد أكثر من انبنائها على النظر المباشر فى التراث نفسه. ومثال ذلك الاحتفاء بالتراث العقلانى للمعتزلة، والذى يرجع فى جزء كبير منه إلى التأثر بقيم التنوير الأوروبى، أو تلك النظرة الشائعة للحلاج بوصفه مناضلا سياسيا واجتماعيا – كما يتبدّى فى مأساة الحلاج لصلاح عبد الصبور، مثلا لا حصرا –، تلك النظرة التى أسس لها بعضُ المستشرقين.
إن الإسلام لم يعد فى نظر كثير من المسلمين دينا ينسرب فى كل شىء على نحو ما تؤسس آية "قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين"، قدر ما غدا ظاهرةً يسرى عليها ما يسرى على سواها مما تمتد له الإنسانيات بالبحث؛ فنشأته خاضعة للظروف الاجتماعية والتاريخية عند الماركسيين، وهو قابل لإعادة الإنتاج على نحو ما فعل فلاسفة الاختلاف – على سبيل التمثيل – مع نيتشه وغيره... إلخ. أما الحديثُ عن إسلام محمد وأبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ – لقد جئتكم بها بيضاء نقية – فاستحال ضربا من الجمود.
وعند مسلم، عن أبى هريرة، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء. وينقل النووى – فى شرحه للصحيح – عن القاضى عياض قولَه فى معنى الحديث: إن الإسلام بدأ فى آحادٍ من الناس وقلّة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والإخلال، حتى لا يبقى إلا فى آحادٍ وقلّة أيضا كما بدأ. اهـ. يقول السندى: (وسيعود غريبا) بقلّة من يقوم به، ويُعين عليه، وإن كان أهله كثيرا. اهـ. قلتُ: فطوبى للغرباء، الذين لم يتّبعوا سَنَنَ من كان قبلهم إلى جحر الضبّ .. حتى لو كان جحرا فلسفيا.
وما أبرىء نفسى إن النفس لأمارة بالسوء.
Sunday, April 14, 2013,15:12
اتصال ... انفصال
(1)
عند القطعة المستقيمة جـ د،
ينفصل المستطيل أ ب جـ د،
عن المستطيل د جـ و هـ
(2)
عند القطعة المستقيمة جـ د،
يلتقى المستطيل أ ب جـ د،
مع المستطيل د جـ و هـ
(3)
عند القطعة المستقيمة جـ د،
ينفصل المستطيل أ ب جـ د،
عن المستطيل د جـ و هـ،
وفى نفس الوقت،
يلتقى معه
Saturday, April 13, 2013,04:11
مبولة دوشامب
هؤلاء الذين يجلسونُ فى مقاهى وسط البلد
ليتحدثوا عن العدالةِ الاجتماعية، وينتقدوا سياساتِ الحُكم
بينما تنغرسُ مؤخراتُهم فى البرجوازيّة
أودّ لو طلبتُ من عاملِ المقهى
أن يرفعَ المشروباتِ الساخنةَ عن مناضدِهم
وأن يضعَ بدلا منها
مبولةَ دوشامب
Friday, April 12, 2013,10:15
ضد التيار
يقول رولان بارت: ها نحن نرى أن السلطة حاضرة فى أكثر الآليات التى تتحكم فى التبادل الاجتماعى رهافة، فى الدولة، وعند الطبقات والجماعات، ولكن أيضا فى أشكال الموضة والآراء الشائعة، والمهرجانات، والألعاب، والمحافل الرياضية والأخبار والعلاقات الأسروية والخاصة، بل وحتى عند الحركات التحررية التى تسعى إلى معارضتها.
لم يعد مفهوم السلطة – عند مفكرى ما بعد الحداثة – مرتبطا بالسياسىّ وحده، بل صار إلى حال من الفضفاضية التى تدخله فى كل خطاب، باعتبار كل ظواهر المجتمع أنظمة خطابية، كما يذهب فوكو. إنها "كالفئران لا تُرى بوضوح إلا فى متاهات الممرات الأرضية وداخل جحورها متعددة المنافذ. إنها تمارس نفسها – كسلطة – انطلاقا من نقاط لا حصر لها، تمارس نفسها فى خفاء"، يقول دولوز.
التاريخ سلطة، والحقيقة سلطة، والفلسفة سلطة... إلخ، حتى الكتابة – التى رأى فيها ليفى شتراوس أداة سيطرة وهيمنة – سلطة. يجادل دولوز، "لقد كان تاريخ الفلسفة دائما عاملا سلطويا داخل الفلسفة وحتى داخل الفكر. لقد لعب دور المضطهِد، كيف تودون التفكير دون قراءة أفلاطون وديكارت وكانط وهيدجر وكتاب فلان أو فلان عنهم؟ لقد تكونت عبر التاريخ صورة عن الفكر تُدعى الفلسفة تمنع الناس تماما من التفكير".
وأيا ما كان موقفنا من جماعة الإخوان المسلمين، قبولا أو تحفظا أو رفضا، فإن الخطاب ضد الجماعة قد صار واحدا من تجليات السلطة بهذا المعنى صعب التحديد. ويبرز ذلك على نحو أكثر اتضاحا فى باحة الإنتليجنسيا التى لم يعد النفاذ إليها ممكنا إلا من خلال خطاب رفض الجماعة الذى يلقى قبولا لدى كل أحد، حتى أصبح مجرد طرح خطاب مغاير نوعا من التجديف الذى يفضى – غالبا – إلى الإقصاء والتهميش.
وقد ساد ما يشبه ذلك خطابَ التحرير تحت حكم المجلس العسكرى، فكل البيانات محكومة – مسبقا – بالرفض، ولم يكن ذلك – فى أغلبه – رفضا للسلطة التى يتموضع فيها السياسىّ، أو ازدراءً لما يقدمه من حلول للأزمة، قدر ما كان خضوعا لسلطة الميدان ذاتها، بحيث يصبح خطاب رفض سلطة السياسىّ مخرجا وحيدا من سلسلة لا تنتهى من المزايدات التى تُشكّل – فى ذاتها – شكلا من أشكال السلطة. ويُضاف إلى ذلك رؤيتُنا التى لا تضفى على القرارات البشرية كل هذا القدر من المعقولية المزعومة فيها؛ إذ تتدخل عوامل أخرى كثيرة فى تشكيل القرار، منها ميلنا إلى اتباع الأنماط، كما يرى مارك بوكانان.
كما أن الميديا – فى عصر مجتمع الصورة والواقع الخائلى – (والتى يتحكم فيها رأس المال) تعيد تشكيلنا من حيث لا نشعر، خصوصا بعد أن لم يعد الواقع أساس الصورة، بل أصبحت الصورة تسبق الواقع وتمهد له. لقد انتقلنا – طبقا لبودريار – من الصورة بوصفها انعكاسا لواقع أساسى، إلى الصورة التى تحجب الواقع وتفسده، إلى الصورة التى تحجب غياب الواقع، إلى الصورة التى تفقد الصلة بأى واقع على الإطلاق، لتحيل إلى ذاتها. إن أخذ مثل هذه التحليلات – التى تتناول تأثير الميديا على المتلقى السلبى – بعين الاعتبار، جنبا إلى جنب باقى ما أشرنا إليه، لمما يغير – ولنعد إلى الإخوان من جديد – فى تقديرنا لكل هذا اللغط المثار حول الجماعة. وفى عبارة أخرى، إن حالة "ضد الإخوان" التى نعيشها الآن، لا تتوقف – فقط – على أداء الجماعة سياسيا وخلقيا، بل تحكمه – كذلك – عوامل أخرى عديدة.
Thursday, April 11, 2013,23:07
ظهوراتُ ليلى
وليلى غائبةٌ، وإن لم تغبْ فى الغيابِ، وحاضرةٌ، وإن لم تستقرّ فى الحضورِ، وأنا لاهثٌ معها فى دوائرِ الما بَيْن.
وليلى متبدِّلةٌ لا تستقرُ على حالٍ، تكونُ فى الغيبِ حتى أقولَ لا تتجلّى فى الشَهادةِ، وتكونُ فى الشَهادةِ حتى أقولَ لا تختفى فى الغيبِ، مراوغةٌ كالسوائل.
وليلى رهيفةٌ كالورقِ الحائلِ، توشكُ أن تتكسّرَ لو لامستُها فى القميصِ الأبيضِ الذى يشفُّ – ولا يبينُ – عن مخملِ مرمرِها وعاجِ نهديها النافرين.
وليلى رائحتُها الوردُ والتبغُ، وصوتُها الإيماءُ، ونكهتُها الأسى، تكشفُ عن فخذيها حتى يوشكَ المستورُ أن يفتضحَ فى وضَحِ النهار، فترسل شعرَها المحلولَ، تغوينى بالتفاتتِها، فتأخذنى بساتينُ الأنوثةِ من بساتينِ الأنوثةِ؛ أنا الظمآنُ فى الرىِّ، والريّانُ فى الظَما.
وليلى ضجيجٌ لا يشوبُهُ الصمتُ، وصمتٌ لا يُعكِّرُهُ الضجيجُ، مرآويةٌ، أوشكُ أنْ أرى فيها ملامحَ وجهى كما ألقاهُ فى ماءِ البحيرةِ؛ أرانى فى دخيلتِها كحُلمٍ بين الصحوِ والإغماءِ، لا أدرى أأنا أنا أم أنا غيرى.
وليلى لا مباليةٌ، تتيهُ علىّ فى غنجِ الطفولةِ والأنوثةِ، تُبدى عُنّابَ تمنُّعِها، ثم تُمنِّينى بوصلٍ لا يحينُ موعدُهُ، وفى اللقاءِ تكونُ بعيدةً فى القربِ، فى مرمى يدى وإن شطحَتْ على بساطِ الريحِ صوبَ الصين.
وليلى مكتنزةُ الردفينِ، تسمحُ لى أن أداعبَها خفيفا، ثم حين يحطُّ الليل لا يبقى من الشهدِ المصفّى غيرُ أنفاسى التى فارتْ وما هدأَتْ، وحين يصيحُ ديكُ الفجرِ تقبلُ فى مواكبِها، تغنّى لى، فأطربُ، ثم تأخذُها البراقعُ والستائرُ، يحجبُها الحريرُ، أُدركُ أنها فى الغيمِ ترقُبُنى، وأنا فى الأرضِ أبحثُ عن ضفيرتِها.
Tuesday, April 09, 2013,06:27
نهايةُ القصّة
إثرَ واقعةِ الخامسِ من أبريل، توزع دمى بين انفعالات شتى: صدمةٍ .. غضبٍ .. ثورةٍ .. ألمٍ .. ندمٍ .. وحزنٍ بالأساس، حتى انتقلتُ – جيئة وذهابا – على التدريج الفاصلِ بين النقيضين، وفى كل الحالات، لم تواتِنى الانفعالاتُ صافيةً خُلْوا مما عداها، بل تداخلتْ وتقاطعتْ، وأنتجتْ نصوصها التى تراوحتْ بين استنزالِ اللعناتِ السماويةِ، على طريقةِ لير شكسبير، وجلدِ الذاتِ، مرورا بالمناطق المشتبكةِ بين الطرفين.
الرابعة فجرا، التاسع من أبريل، وواحدةٌ من "تلك اللحظات".
وبعد إشعالِ لفافةِ تبغٍ، أقول:
فكّرتُ – فى البدء – ألا تجترحَ يدى كلمةً واحدةً فى هذا الشأن، تأسيسا على فهمى الخاصِ للإذعانِ الصوفىِّ كما تبدّى لى، وقد تبدّى لى مقترنا وحاضرا فى الصمتِ، الذى يتخذ فى هذه الحالةِ سَمْتَ النبل. وبعبارةٍ أخرى: لا يكون الإذعانُ إذعانا صوفيا إلا بكينونتِهِ معاناةً مغرقةً فى الجُوّانيّة، وكلما أغرق فى الجوانية، كان أقربَ إلى معنى التصوفِ مما عداه. والسالكُ لا يمتنعُ عن "لفظ" اللسانِ ليطلق العنانَ لتشكّى القلب، بل إنه لا يصح إلا بعَقْلِ الجارحةِ والقلبِ معا، فيكون حَمْلُ النفسِ على الرضا الذى هو الانفعاليةُ التامةُ للقدرِ حَمْلا، مهما تطلّبَ ذلك من مكابدةٍ ومجاهدةٍ فى أول الأمر، إلى أن يستحيلَ التطبّعُ طبعا، وتحصلَ الانفعاليةُ فى التسليم. إن الإذعانَ الصوفىّ صامتٌ ونبيل، وهو نبيلٌ لأنه صامتٌ، وصامتٌ لأنه نبيل.
بهذا الفهم تخرج كلمات بدر شاكر السياب "لك الحمدُ مهما استطالَ البلاء/ومهما استبدّ الألم/لك الحمدُ إن الرزايا عطاء/وإن المصيباتِ بعضُ الكرم" – تخرجُ من فهمنا للإذعان؛ لأنها اجترحتْهُ بالكتابةِ القاصدةِ إلى النشر، والنشرُ ذيوعٌ، وخروجٌ عن خصوصيةِ العلاقة. إن الإشارةَ القرآنيةَ الوحيدةَ إلى أيّوبَ – الذى صارت معاناتُهُ مضربَ مثلٍ – تردُ فى موضعين: فى "الأنبياء - 83"، و "ص - 41"، وفيها لا يخرجُ أيّوبُ عن صمتِهِ إلا مناجاةً لله، وتوجّهًا له بالطلب. ولما كانت شكواهُ إلى الله، فوحده اللهُ من يخبرنا عنها، لا نقولاتُ التاريخِ الشفهيّةُ أو المدوّنة.
ولأننى دون ذلك، فقد اجترحتُ واقعتَىْ موتِ أبى والخامسِ من أبريلَ بالكتابة، التى تصبح – فى هذه الحالةِ – بديلا للانتحار، كما يشير علاء الديب، خصوصا وأننى أمِيلُ – بحكمِ الطبعِ – إلى إغلاقِ نفسى على ما فيها أكثر مما أميلُ إلى البوح، فتكون الكتابةُ آليةً ملائمةً لكشفِ غطاءِ المِرْجَلِ قليلا – حتى لا ينفجرَ – من ناحية، ومرآةً أتأملنى فيها وأحاول فهمى من ناحيةٍ أخرى، على طريقةِ كيركجورد الذى يقول: إن إنتاجى كله ليس سوى تربيتى لنفسى، ويقول: إننى على نقيض غيرى من الوعّاظ ... فبينما هم يجشّمون أنفسَهم مخاطبةَ الآخرين، أتحدث أنا إلى نفسى. لكنّ معاناةَ أيّوبَ قد كانت – بلا شكٍّ – أعظمَ من معاناةِ كيركجورد.
كنتُ قد وقعتُ فى أسر هذه المقولةِ – To understand is to forgive – التى تربط القدرةَ على التسامحِ بالقدرةِ على التفهّم، لأجعلَ من محاولةِ تفهّمِ ما قاد الآخرَ إلى ما يتطلّبُ المسامحةَ مدخلًا – وحيدًا – إلى المسامحةِ ذاتِها، غير أنى قد عثرتُ – فى الأثرِ – على ما يفوقُ هذه الصيغةً عظمةً، وأقصدُ – هنا – تحديدا – إلى الحديثِ الذى يتتبّعُ فيه واحدٌ من الصحابةِ رجلا قال الرسول إنه من أهلِ الجنة، ليكتشفَ – بعد إقامتِهِ عنده – أنه لا يعملُ كثيرَ عملٍ، حتى يخبرَهُ الرجلُ بأنه لا يبيتُ وفى قلبه غشٌّ ولا حسدٌ على أحدٍ من المسلمين، والحديثُ وإن اختلفَ فيه أهلُ العلمِ بين مُصَحِّحٍ ومُضَعِّفٍ، حتى لكان تضعيفُهُ أقربَ وأولى، إلا أنه قد نبّهنى إلى إمكانيةٍ أخرى للتسامحِ غيرِ المشروطِ بالتفهّم، التسامحِ الذى لا يفتِّشُ فى الدوافعِ والأسبابِ ليحللَها ويتفهمَها، بل الذى يوشكُ أن يكونَ (أو هو كذلك) محضَ إرادةٍ خيِّرةٍ تهدفُ إلى نقاءِ الداخلِ، انطلاقا من كونِهِ داخلا منكشفًا أمام الله، وتأسيسا على كونِ العلاقةِ – بالأساسِ وفقط – بين المرءِ وربِّه، لا بين المرءِ وتلك الذاتِ الأخرى موضوعِ المسامحة.
وإليكِ أتوجّـهُ الآن:
لا أريدُ لى أن أدخلَ معكِ فى علاقةٍ تسامحيّة؛ لأن التسامحَ يفترضُ – ضمنًا – صدورَ أخطاءٍ عنكِ تقتضيه، وقد عزمْتُ ألا أضعَ نفسى فى هذا الموقفِ الاستعلائىِّ الرامى إلى إصدارِ أحكامٍ خلقيّة؛ فما كان – أيّا ما كان – قد كان، ولن أعودَ إلى النبشِ فيه سلبا. كنْتِ – لسنواتٍ – جزءً من حياتى .. جزءً جميلا من حياتى لو أردتِ الصدق، ولستُ بقادرٍ على ولا راغبٍ فى التنصّلِ منه، وسأذكرُكِ – ما ذكرتُكِ – بخيرٍ، وبلا ضغينة. أرجو ألا يبدوَ هذا الموقفُ ذاتُهُ استعلائيّا، فكل ما فى الأمر أننى فى واحدةٍ من "تلك اللحظات". أرجو – كذلك – ألا يكونَ رخيصًا ومبتذلًا وكليشيهيّا كهذا النوعِ من النهايات. وفى الأخير، لقد أحببتُكِ بعمقٍ وصدق. وأيّا ما كان، فأنا أتحدثُ عن الجزءِ الذى يخصّنى فى العلاقةِ، وأنا أدرَى بنفسى وبه.
السادسة والنصف.
Monday, April 08, 2013,05:04
سِفْرُ الخُرُوج .. وسَفَرُ الدّخُول
كنتُ بحاجةٍ إلى البوحِ، وإن لم أكن راغبًا فيه؛ فجلسْتُ إلى شيخى القديمِ، وكان قد أرخى ساعدَهُ، واستندَ إلى جذعِ شجرةٍ، بعد أن أنهكَهُ طولُ الترحال، وقلتُ له: الغريبُ – يا شيخى – أنها بذلَتْ جهدًا لتعلّمَنى أن التراجعَ استحالة، وبرّرَتْ ذلك بما للهوى من قدرةٍ على القهر. والمضحكُ أننى صدّقْتُها. لم أصدِّقْها – يا شيخى – عقلًا، بل ممارسة. لقد آمنْتُ. وأنا – الآن – بين يديكَ؛ لأنها تراجَعَتْ. هكذا، بعد أن لقّنَتْنى الدرس. تبيّنَ لها أنّ التراجعَ ممكنٌ، وأنّ إرادةَ الإنسانِ تقهرُ قهرَ الحبّ. زلزلَتْ إيمانى بما علّمَتْنى وعلّمْتَنى يا شيخُ؛ فنخرَنى الشكّ. ثم كيف للوجدِ أن يبلغَ هذا المدى بين ناسوتَيْن؛ ما دمنا هنا للموت؟ ألسنا – هنا – للموت؟! كان منطقيّا – إذًا – أن يموتَ ما نما – ذاتَ تمشيةٍ – فى القلب.
لو أنها علّمَتْنى – فيما علّمَتْنى – كيف أتوقّفُ، يا شيخ! فقط لو أنها علّمَتْنى كيف أتوقّف! لكنها ضنّتْ علىّ – يا شيخى – بهذا السرِّ، رغم أنها كانت تعرفُه. أعرفُ – يا شيخى – أنها كانتْ تعرفُه. كانتْ تعرفُهُ، وتعرفُ كيف تنقلبُ إلى هذا الحدِّ .. وقد فعلَتْ.
ارتجفَ، وتصبّبَ عرقُه، بينما كان يحفرُ بعصا صغيرةٍ على جذعِ الشجرة. وحين انتهى، كان اسمُ "ليلى" بارزًا على اللحاءِ فى عمق. انتبهْتُ للإشارةِ، فقلتُ: لكنّ "ليلى" لا تقبلُ ما دون الروحِ يا شيخُ، وأنا ما زلتُ منغرسًا فى الطينِ إلى شحمتى الأذنين. التفَتَ ناحيتى لأولِ مرةٍ، حتى أشَحْتُ بوجهى عن نظرتِهِ النافذةِ، وهمَس: كن بُستانيّا، ينبتْ فى جُوّانيّتكَ الورد.
– لكنّ جوانيّتى خرابٌ يا شيخ.
– ومَن منا ليس كذلك؟ غيرَ أنّ العارفَ من يبذرُ فى الخرائبِ بذورَ الوردِ، ويتعهّدُها، ويرعاها بالكتمانِ، حتى تنبتَ أقحوانةٌ هنا، وقرنفلةٌ هناك. والوردُ – يا ولدى – يجلبُ الورد.
قلتُ: ولِمَ تركْتَنى أبذرُ بذورَ الناسوتِ منذ البدء؟
قال: لِتجرِّبَ وتعرفَ وتتألمَ، وحين تعودُ، تكون تربتُكَ جاهزةً للغرس. هذا دربٌ لا يكون إلا فى المعاناةِ يا ولدى، ولسْتُ أعرفُ واحدًا من سالكيهِ إلا كان حاضرًا فى التألّم. كلُّنا أتيناهُ زاحفين فى الشوكِ، ومن لا يأتينا هكذا، لا يأتينا قطّ.
نزلَتْ كلماتُهُ على قلبى بردًا وسلامًا، فازدادَتْ أريحيّتى، وبكيتُ. كنتُ قد جرّبْتُ وعرفْتُ وتألّمْتُ، وما عاد ينقصنى لأذوقَ سوى أن أضعَ الخِرْقَة. غبْتُ قليلا فى استرجاعِ الرحلةِ، حتى شعرْتُ بنداوةِ الدمع. وحين انتبهْتُ، كان شيخى يصعدُ الجبلَ، وعلى ظهرِهِ حِمْلٌ لم أتبيّنْه، لكنّنى أدركْتُ – رغمَ المسافةِ – أنه قد بدأَ يَحزن.
Saturday, April 06, 2013,23:58
إلى اليمامةِ التى لم تأتِ بعد
لأن انتظارى طالَ، لأن انتظارى يطول
لأنك قد لا تجىء
لأن النجومَ تُكذِّب ظنى
لأن كتابَ الطوالعِ يزعمُ أنك تأتى إذا اقترن النسرُ والأفعوان
لأن الشواهدَ لم تتكشّف
لأن الليالى الحبالى يلدْنَ ضُحىً مجهضا
ولأن الإشاراتِ حين تجىء...
تجىءُ لنا الإشاراتُ من مرصدِ الغيبِ
يكشفُ عن سرِّها العلماءُ الثقاتُ، تقول:
انتظارٌ عقيم!
انتظارٌ عقيم!
انتظارٌ عقيم!
ثم كان – يا أحبابُ – أن أقلعْتُ عن انتظارِ جودو الذى لا يأتى؛ ففى الخامسِ من أبريلَ، جرحَتْنى الشمسُ بالفوتونات، وجاءنى الصوت: هذا أوانُ التجاوز. فدعْكِ من ماضىّ، وأَقْبِلى كالصلاةِ رقرقَها النسيم.
***
أَقْبِلى فى المخدِّر، وامسحى عنى رمادَ الذاكرة، فمنذ غادرْتِ طروادةَ إلىّ، وأنا أغزلُ قميصَكِ الأبيضَ المحفوفَ بالدانتيل. ألهَتْنى عنكِ العابراتُ حتى ظننْتُهنّ أنتِ، فكدتُ أصبأُ وأصبو. صدّقْت، فصدَقْت .. وشُفْت، فشَفَفْت، وخَفَفْت. ثم انقشعَتِ الغمامةُ، فعرفْتُ أنكِ لم تأتى بعد. غادرْتِ طروادةَ، فعودى – الآن – قبلَ سقوطِ الأندلس.
أَقْبِلى فى البرتقالِ؛ فإنكِ صنوُه، وكلاكما يمنحنى الشمس. أزيلى عواميدَ الملحِ؛ كى لا أتشقّق. أريدنى قطعةً واحدةً؛ حتى أفنى فيكِ جملةً واحدة.
أَقْبِلى فى الزمنِ المُنْسَرِبِ إلى تحتِ الجِلد، وفَلْتِرِى الدّمَ من سمومِ الحكمة. أنا أليعازرُ، فأنزلينى من صليبِ الحزنِ، وسَمِّرِينى فى جدارِ القلبِ بوعدِ المستقبل. ألبَسَنى الرومانُ تاجًا من شوك، وجلدوا ظهرى مائةَ مرة؛ فمسِّينى بأوراقِ الوردِ الأبيض؛ حتى تنمحىَ النُّدبُ، ويلتئمَ الجرح.
***
[وأنا البِكْرُ لم تطمثنى بناتُ الإنسِ ولا عفريتاتُ الجان، فاستويْتُ نضجًا، واحتفظْتُ – رغم اللفحِ – بالنّداوة.]
[وأنا الأندلسُ ما غدرْتُ بجيوشِ العربِ، لكنّهم أشاحوا بظهورِهم عنى، ورحلوا صوبَ أرضٍ بعيدةٍ، فأرضٍ بعيدة، لأظلّ مُترعًا بالخيرِ، أرضًا تتعطّشُ لمن ترويه.]
[وأنا الصوفىُّ أحلُّ فى المحبوبِ حتى أندغمَ فيه، فأكونه ويكوننى ونكون الجُبّةَ معًا، ثم لا نكون.]
[وأنا المُزّمِّلُ بالشِعرِ، المُدّثِّرُ فى الحبِّ، المُتفتِّحُ لغدٍ أُلوِّنه معك؛ فزَمِّلِينى من نفسى التى تتعقبُنى إلى حدودِ الترقوة. كونى رسولَ الفُلِّ يا يمامةُ؛ فأنا البنفسجُ، والرسالة .. أنا النبوءةُ، والحصان.]
Wednesday, April 03, 2013,05:36
فى الثلاثين .. أسئلة ومشاريع - الثالثة عشرة
قد يبدو الواقعُ ثقيلا ومُحبِطا فى ذاتِه، غيرَ أن فداحتَهُ تتجلّى – كأوضحِ ما يكونُ – حالَ مقارنتِهِ بالحُلمِ الذى كان، والفارقُ بين الحُلمِ الذى كان والحُلمِ الذى يكونُ (أو سيكون) يكمنُ فى اقترانِ أولِهِما باليقينيةِ التى تَوَهّمْنا معها أن شيئا سوى الزمنِ لا يفصلُ بين الحُلمِ وتحقّقِه. ثم كان هديرُ الزمنِ الدوّار، فبدأتِ الأحلامُ فى التكسّرِ واحدًا تلوَ الواحد، حتى وعينا أن بقاءَ الحُلمِ حُلمًا أساسٌ فى تركيبتِه، وأن كثيرًا من الأحلامِ غيرُ مقدورةٍ للتحقق، فتواضعْنا – حتى – فى الأمنية.
ارجعْ قليلا – أو كثيرا – إلى الطفلِ الذى كنْتَه، وتذكرْ ما دار بالخاطرِ فى تلك الأيامِ المتسعةِ كالمدى. ألم تظنّ – مثلى – أن السماءَ ستكونُ – يوما – فى مرمى الأكف؟ أنها مسألةُ وقتٍ لا أكثر؟ أنك ما أن تدلفَ من بوابةِ الكبارِ السحريةِ حتى سيغدوَ كلُّ شىءٍ واقعا؟ عدْ – من فوركَ – إلى الـ "هنا والآن". أدركتَ الفداحةَ التى تبديها المقارنة؟ والأكثرُ من ذلك: هل شعرْتَ كعبوةٍ من اللبنِ المُبَسْتر؟
فى "معرض الحيواناتِ الزجاجية" لتينيسى ويليامز، بدا "جيم" فى الثانويةِ وكأن الطريقَ سينتهى به إلى البيتِ الأبيض، لكنّ الصيرورةَ قد انحرفتْ به – قليلا – عن هذا المسار. (أقول "قليلا" لأستعرضَ – معكم – قدراتى التهكمية). والآن، إليك بالمفارقةِ المضحكةِ المبكيةِ فى آن: لقد انتهى به الأمرُ موظفا فى مصنعٍ للأحذية. إن هذه الحياةَ مخيبةٌ للآمالِ على نحوٍ مؤسٍ وخادشٍ للحياء.
وليس يجدى أن تتساءلَ عن تلك الليلةِ التى وقعَ فيها الخطأ؛ فلم يكن من وقوعِهِ بُدّ، وما كنتَ لتُفلحَ – يا لاعبَ السيركِ – فى تجنبِ كلِّ خطأ، وإلا لأمكنَ – خلافًا للمقدورِ – أن تقومَ جنةٌ على هذه الأرض.
ما كان هو نفسُ ما سيكون، كما يشيرُ الجامعةُ بن داود؛ ولذلك فإن السيناريو يكررُ نفسَهُ حدّ التكرار: فى البدءِ يكون الحُلمُ بإمكانيةِ تسلقِ أسوارِ الاستحالة .. نسقطُ من حالقٍ، فينشجُّ الرأسُ (ويتعلمُ القلبُ أن يحترس) .. نتواضعُ قليلا، فنحلمُ بسياجِ المُمكن .. نقعُ من الحبلِ المشدودِ بين حُلمين، فنرضى بالمُتاح.
مفتتحٌ وخاتمة: لولا مخافةُ ذلك الذى يكونُ بعد الموتِ، لانفضضْتُ عن هذه المائدةِ منذُ أمد.
Monday, April 01, 2013,06:33
قسوة
نبتَتْ فى عينى البارحةَ سبعُ ورداتٍ بنفسجيةٍ، أكلَتْهنّ سبعُ ورداتٍ بيض .. سبعُ زهراتٍ من فلٍّ أبيضَ، وورقاتُ برسيمٍ من الحقلِ الذى بجوارِ مسجدِ الزاوية. نظرْتُ عبرَ الحقولِ، ورأيْتُ التوتةَ والترعةَ، فاشتقْتُ العبور.
وقفَتْ فى زيِّها الأبيضِ كيمامةٍ عندَ منتهى البرسيمِ، واستندَتْ إلى الساقيةِ التى تربّعَتْ عليها بناتُ الجان. فردْتُ ذراعىّ ودسْتُ فى الحشائشِ، فحملَتْها سحابةُ القديسينَ صوبَ مملكتِها العلوية. تعثرْتُ فجُرحَ باطنُ كفى، ورأيْتُ دمى على طرفِ ثوبِها الأزرقِ المنقوش.
كان ثوبُها قصيرًا بلا أكمام. وكان شعرُها مفروقًا من المنتصفِ، منسدلًا على الكتفين. أشاحَتْ بعصاها الملونةِ فتطايرَتْ نجومٌ وفقاقيعٌ بألوانِ قوسِ قُزح، حفّتْ فى سقوطِها المتئدِ بركبتيها العاريتينِ، وحين مسّتِ الأرضَ خفيفًا نبَتَ النخيلُ والتينُ والرمان.
استدارَتْ فأقبلَتْ عصافيرٌ وفاضَ ماء. حجبتْنى العصافيرُ عن الشمسِ فسَرَتْ فى جسدى البرودة. أمعنَتْ فى المدى، وكان الماءُ بيننا، فهتفْتُ: لو تعلمين... أجابتْنى الريحُ: لو تعلمين... لكنها لم تلتَفِتْ.
كانتِ الشمسُ فى المغيبِ، والماءُ باتساعِ الكونِ، واليابسةُ عند قدمىّ المتيبستينِ، حين ابتعَدَتْ حتى طواها الغياب. ولما تعبْتُ، فخررْتُ، وازدادَتِ البرودةُ، كانتْ هناك. لكنها لم تمدّ يدا.