Friday, May 22, 2009,02:05
كلون أيامي

أفيق ذات صباح على الوقع الكابوسيِّ لعمرٍ آخذٍ في التفلُّت. أدرك - مفاجأةً - أن الحياة قد غافلتني في سبعة وعشرين عاما بلا مناسبة. انسربتْ سنواتي العشرينية وقد كنت أعيش وهم الصِغَر حتى غشيني الكبر بلا مقدمات تمهيدية. ربما جاءتني المقدمات فتغافلتُ عنها انشغالا باللاشيء، وربما حدث الانتقال من حزن الصبا إلى حزن الرجولة في غمضة عين.

في أي ليلة تُرى يقبع ذلك الخطأ

تعطيني السابعة والعشرون شيئا من حكمتها الكابية. تخبرني أننا نخوض في الحياة بعض الطرق، فقط لندرك في نهايتها أنه لم يكن علينا أن نخوضها منذ البدء. يصبح هذا الدرس المر هو خلاصة التجربة، ويصبح هذا الدرس المر هو الكسب الأوحد.

تخبرني أننا نخوض طرقا أخرى واعين تمام الوعي منذ الخطوة الأولى بالفشل الذي ينتظرنا في نهايتها، فإذا بنا نتغاضى عن المصير - طمعا في سعادة مختلسة، أو أملا (سرابيا) في تغير النهاية - ونخوضها على أية حال.

تخبرني أننا إن لم نختزن شيئا من قمح الصيف يعيننا على قحط الشتاء (وقد حلَّ مبكرا هذا العام)، فسيصيبنا - مع الخريف - ندمٌ لا راد له (إلا الله)، ويقينٌ بأن ما كان كان هباء تذروه الرياح.

تخبرني أننا لا نجني من الشوك العنب، وأن ما زرعناه من حصرم سيحين وقت حصاده، وأننا لن نعاني مر ثمره وحدنا، بل سيشاركنا - في الألم - من نحب.

تخبرني أن أشباح الماضي لن تتوقف عن مطاردتنا مهما بالغنا في مواراة الجثث، وأن أفضل أوقاتها للإطلال برءوسها الأفعوانية هو أوج الأمن، حين نظن - جهلا - أن الموتى لا يروون القصص. ألا إنهم يروون.

تخبرني أن العالم لو خلا من كل حزن سوى حزن الفقد لكفاه، فأعجب كيف تحمل البشر كل هذه العذابات التي بدأت بهبوط آدم .. أعجب كيف تحمل البشر كل هذه العذابات دون أن تنقرض السلالة.

أفيق ذات صباح على الوقع الكابوسيِّ لعمرٍ آخذٍ في التفلُّت. أدرك - مفاجأةً - أن الحياة قد غافلتني في سبعة وعشرين عاما بلا مناسبة. انسربتْ سنواتي العشرينية وقد كنت أعيش وهم الصِغَر حتى غشيني الكبر بلا مقدمات تمهيدية. ربما جاءتني المقدمات فتغافلتُ عنها انشغالا باللاشيء، وربما حدث الانتقال من حزن الصبا إلى حزن الرجولة في غمضة عين.

 
Posted by Muhammad | Permalink | 7 comments
Monday, May 04, 2009,18:51
بريد دهشور

أكتبُ من دهشورَ يا صديقتي حيثُ الـ
لكنَّ مكتوبيَ لا يصل.

أستمعُ إلى فيروزَ كثيرًا هذهِ الأيام. أحتاجُ شيئًا ملائكيًّا وحزينًا فأستمعُ إلى فيروزَ كثيرًا هذهِ الأيام. وأشتاقُكِ كثيرًا هذهِ الأيام. أحتاجُ شيئًا ملائكيًّا وحميمًا فأشتاقُكِ كثيرًا هذهِ الأيام.

تسقطُ الشهورُ تباعًا في بئرِ الصيرورةِ دونَ أملٍ في تحوّلِ القلبِ أو النسيان. تتوقفُ قوانينُ الوجودِ (والعهدُ في الليالي تُقَسِّي) فلا أعودُ إلى السفرِ في أقاليمِ الليلِ والنهار. أنتِ الليلُ وأنتِ النهار. وأنتِ قانونُ الوجود. تحضرينَ فيقومُ التناغمُ والاتزان، وتغيبينَ فتختلُّ النغماتُ والمداراتُ والسكناتُ والحركات.

الخيال - ذلكَ الذي آمنَّا (وهمًا) أنه قد يُعوِّضُنا الغائبينَ - لا يُفلحُ إلا في إثارةِ التذكُّرات. لا شيءَ يُغني عن وجودِكِ الحيِّ سوى وجودِكِ الحيّ. أحتاجُكِ لحمًا ودمًا وجسدًا مشدودًا - كوترٍ - بالفرحِ وبالحياة. أحتاجُكِ روحَ فراشةٍ وثَّابةٍ ترتدي الجينزَ وتجتذبُ النور. أحتاجُكِ مملكةً من أنثى تضوعُ منها رائحةُ البعثِ والميلاد.

تحملني حلقاتُ الدخانِ المتصاعدِ من لفافةِ تبغي إلى مناطقَ نائيةٍ من شرود. تتغلبُ على ضيقِ الصحراءِ الواسعِ حتى تحطَّ الرحلَ في ميدانِ التحرير. لا شيءَ في الصحراءِ سوى الجدبِ إذ يتجلَّى في أبهى صورِهِ، واصفرارِ الروح. لا وقتَ للرحلاتِ الداخليةِ حتى أعماقِ الذات. لا يُراودني - ههنا - غيرُ احتضارِ الآدميةِ والخواء. يقولون إنَّ الأديانَ تنطلقُ من قلبِ الصحراء، لكنني - ولستُ أحملُ داخلي بذرةَ النبوَّةِ - لم أعد أطيقُ الصبرَ والاستمرار. ربما لو تغيَّرتِ المعطياتُ لَتغيَّرَ - كليًّا - شكلُ الناتجِ وربما لا بأسَ بالصحراء. ربما يتعلقُ الأمرُ بالحريةِ المقيَّدةِ والاغتراب. ربما لو كنتِ معي لَجعلْنا من الصحراءِ فردوسًا بريًّا وسطَ سُعارِ الجحيمِ الأرضي، ولَتعرَّفَ كلٌّ منا على نفسِهِ في مرآةِ الآخر.

كلُّ أحاديثِ الاشتياقِ مكرورةٌ وكلُّ الكلامِ مُعاد. لكنَّ الشعورَ - على تكرارهِ - يظلُّ طازجًا أبدًا وكأنَّ أيامًا متباطئاتٍ ولياليَ متطاولاتٍ لم تفُت. تأبى قشرةُ الجُرحِ أن تتكوَّنَ معلنةً قربَ الاندمال. يأبى القلبُ - في محبسيهِ: الصدرِ والحبِّ الخائبِ - إلا أن يرقَّ (والعهدُ في الليالي تُقَسِّي).

لستُ أعرفُ شيئًا في النتاجِ الكُلثوميِّ يضاهي "الأطلالَ" عظَمة. أبدعُ ما كتبَ إبراهيم ناجي، وأجملُ ما لحَّنَ السنباطي. تتضافرُ الكلماتُ الفرِحةُ والنغماتُ الفرِحةُ ساعةَ اللقاءِ لتبلغَ الملحمةُ أوجَ النشوة:

هل رأى الحبُّ سكارى مثلَنا ... كم بنَيْنا من خيالٍ حولنا
ومشَيْنا في طريقٍ مُقمرٍ ... تثبُ الفرحةُ فيهِ قبلنا
وضحكنا ضحكَ طفلينِ معًا ... وعدَوْنا فسبَقْنا ظلَّنا

ليرتبطَ الحبُّ بسُكْرِ الوجدِ والأخيلةِ والطرقِ المقمرةِ والضحكِ والعدْوِ والفرحةِ المتوثبة. ثم ما يلبثُ المنحنى المتصاعدُ أن ينهارَ - فجأةً - كجرف (خصوصًا مع الاستخدامِ المتكررِ لـ إذا الفجائية)، فتندقُّ أعناقُ المحبين:

وانتبَهْنا بعدما زالَ الرحيق ... وأفَقْنا ليتَ أنَّا لا نُفيق
يقظةٌ طاحتْ بأحلامِ الكَرى ... وتولَّى الليلُ والليلُ صديق
وإذا النورُ نذيرٌ طالعٌ ... وإذا الفجرُ مُطلٌّ كالحريق
وإذا الدنيا كما نعرفُها ... وإذا الأحبابُ كلٌّ في طريق

لتظهرَ مرادفاتٌ جديدةٌ تُضادُ - في مجملِها - مرادفاتِ المقطعِ السابق، إذ يكونُ الانتباهُ بعد الحُلم، والإفاقةُ بعد السكْر، والنورُ بعدَ الليل، في سياقٍ يتحوَّلُ الفجرُ معهُ - لدهشتِنا الشديدةِ - إلى نذيرٍ وحريق، فلا يرتبطُ بالسطوعِ والإشراقِ والحقيقةِ والولادةِ الجديدةِ كما هي الحالُ عندَ أغلبِ الكُتَّاب، بل يرتبطُ - كارثيًّا - بالأحبابِ الذين تفرقتْ بهم الطرق، مع الإشارةِ الدالَّةِ إلى الدنيا التي لا يثقُ بها كثيرًا شاعرُنا الرومانسيّ، والتي ترتبطُ عندَهُ بالفجيعةِ (لا بالحب)، حيثُ تكشفُ عن حقيقتِها - التي تقترنُ عندَ الدكتور ناجي بزوالِ الرحيقِ وانكسارِ الحُلمِ وافتراقِ الأحبَّة - متبديةً "كما نعرفُها". أضفْ إلى ذلكَ نغماتِ السنباطي التي تنتشي حدَّ التراقصِ في المقطعِ الأول، ليغلبَ عليها الرعبُ والحزنُ والخيبةُ والانكسارُ في المقطعِ الثاني، وسطَ نبراتِ الحسرةِ المتصاعدةِ من حنجرةِ أمِّ كُلثوم.

وأنا قد عرفتُ معكِ كلَّ ذلك .. الحبَّ الراقصَ على أنغامِ الفالس .. والحبَّ الراقصَ على دقاتِ طبولِ الذبح .. والحبَّ الذاهلَ في اللحظةِ الجهنميةِ الفاصلةِ بين الفالس .. والذبح.

يا حبيبي كلُّ شيءٍ بقضاء ... ما بأيدينا خُلقْنا تُعساء
ربما تجمعُنا أقدارُنا ... ذاتَ يومٍ بعدما عزَّ اللقاء

ربما .. وآه من قسوةِ ربما.

 
Posted by Muhammad | Permalink | 9 comments