Wednesday, August 21, 2013,08:03
ذلك الخطأ
"تمضى الحياة كالقطار السريع يمر خطفا، من مواليد يطلبون رضعة الثدى وتغيير القماط المبلل وغسل مؤخراتهم، إلى أطفال يكوِّنون جملا مفيدة ويقولون نعم ويقولون لا أكثر من نعم لأنهم يكتشفون إرادتهم وأنفسهم. ثم إذ بهم، فى غمضة عين، صِبية يُقبلون على المرآة ويستعجلون الزغب يريدونه شاربا ويعتنون بمظهرهم لأن صَبيّة ما على الأبواب. أتابعهم، أتابع كل صغيرة وكبيرة وألف شىء بينهما لأننى أريد... ما الذى كنت أريده؟ كنت معهم فى القطار ولم أكن، لأننى منذ ذلك اليوم الذى أركبونا فيه الشاحنة ورأيت أبى وأخوىّ على الكوم [كوم الجثث]، بقيتُ هناك لا أتحرك حتى وإن بدا غير ذلك. ربما كنت أبالغ لأننى كنت أعرف بشكل غامض وغير موعىّ به تماما أننى خارج القطار". وتسأل: "هل كان أمين [الزوج] مثلى خارج القطار وهو داخله أم أن عمله كطبيب وفّر له قطارا خاصا ينتمى إليه ويروِّض الوحشة فى روحه؟"

هكذا تلخص رضوى عاشور – على لسان رقية الطنطورية – الحكايةَ إذًا، حكايةَ الذين يظلون على رصيفِ المحطةِ وإن بدوا داخلَ القطار. ولو استعدْنا سؤال عبد المعطى حجازى المُربك والمحير والمؤلم فى آن، من مرثيته للاعب سيرك، "فى أى ليلةٍ تُرى يقبعُ ذلك الخطأ"، لوجدنا إجابةَ رقية واضحة؛ إنها ليلةُ استباحةِ "الطنطورة" على يد عصابات الصهاينة، وقتلِ الأب والأخوين، ورؤيتِهم جثثا فوق كوم الجثث.

ورغم مأساوية الحكاية إلا أن رقية تبدو – فى هذه النقطة تحديدا – أكثرَ محظوظيةً من غيرها؛ إنها تستطيع أن تضع يدها على اللحظةِ التى بدأ معها "ذلك الخطأ"، لحظةِ انفصام الجسد الذى يصعد على متن القطار عن الروح التى تظل هناك على رصيف المحطة، فتكون المحصلةُ خارجَ القطارِ (مرادفِ الحياة)، وإن بدتْ داخله.

تبدو رقية أكثرَ محظوظية؛ لأننى لو سألتك – أيها العابر – عن اللحظة المحددة التى بدأ معها "ذلك الخطأ" فى حياتك، خطأُ الانفصامِ والكينونةِ 'خارج وداخل' فى آن، فلا أحسب أنه سيكون بمقدورك أن تحددها هكذا بوضوح؛ إذ تنسرب الأيام خطفا دون أن تمهلك وقتا كافيا لإدراك تفلّتها من فجوات الأصابع. ويوما ما، ربما على مشارفِ الخمسين أو الستين، ستستغرب الموقفَ تماما! متى انتقلتُ من حزن الصبا إلى حزن الرجولة؟! خصوصا والفارق بين الحزنين جدّ كبير.

الخدود المُرد التى تخشوشن باللحى، الشعر المتطاير، الجسد الطفولى الغض الذى تـُقسِّيه الصيرورة، المحيطون الذين يسقطون واحدا تلو الواحد، والبراءة التى تدهمها عجلاتُ التجريب... ستعايش التحولَ فى كل هاتيك الوقائع، غير أنك ستظل عاجزا عن إجابةِ التساؤلِ المُمضّ: متى كان كل ذلك؟ وهل عشتُه بحق؟ أنا الطفلُ الذى أراه الآن بعينِ الذهنِ لاهيًا فى حفلةٍ من حفلاتِ عيدِ الميلاد يحملُه الأخُ الأكبرُ على كتفيه، أو الصغيرةُ التى بدتْ أسنانُها فى تلك الصورةِ ذات الشعرِ المجدولِ فى ضفائر هو نفسُه/هى نفسُها "أنا" التى مرّتْ بالتجارب ودخنَتِ التبغَ وما عاد الصغارُ ينادونها باسمها هكذا عاريا بلا ألقاب؛ لأنها صارتْ من الكبار؟ أليس من المحتمل أن يكون راكبُ القطارِ ليس سوى شبيهٍ أدّى عنا الدورَ بينما نحن قابعون – بعدُ – هناك على المحطةِ فى انتظارِ الرحلة؟ ستتعجبُ كثيرا – أيها العابر – كيف غوفلتَ فى كل هذه السنواتِ دون أن تنتبه، وحين يأتيك الموتُ ربما لن تصدِّقَ أنك قد أمضيتَ هنا – تقولُ السجلاتُ – أكثرَ من نصفِ قرن!

لقد خانكَ الوقتُ يا سندباد!
 
Posted by Muhammad | Permalink | 17 comments
Tuesday, August 20, 2013,12:18
عالَمان
يحدثنا الذين يعيشون فوق خط الثراء عن خط الفقر الذى نعيش على تخومه، من أعلى أو من أسفل، سائلين الله الستر .. يحدثوننا عنه (ونحن أدرى به منهم) أكثر مما يحدثوننا عن الخط الذى يعيشون فوقه/خط الثراء. خلِّ خلافاتنا الآن يا صديق، فأنا وأنت ومن أشبهونا حثالاتٌ مقارنةً بأولئك الحكام الحقيقيين الذين لن يدَعوا لنا عيشا ولا حرية ولا عدالة ولا حتى تدينا خارج الدائرة التى تواضعوا – هم – على رسم حدودها كما يلائمهم. لن يسمح لنا هؤلاء – على بُعد خلافاتنا، أنا وأنت – بالمساس ببناهم التى أقروها: سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وقانونيا، ودينيا، وثقافيا. لم تُحدث الثورة أى تغير فى تلك البنى، بل عادت – فى الأخير – إلى ترسيخها أكثر من ذى قبل. أكد السادة سيادتهم، وسيهوِى الحثالات أكثر فأكثر، بعد أن باءت كل محاولات الحالمين – على اختلاف أحلامهم – بالخيبة والفشل. هذه الدولة لهم بالكليّة، ونحن فيها لإكمال العدد المطلوب، وتسيير الأمور، والحفاظ على الواجهة؛ ما دامت كل بلاد الأرض سادة وحثالات.

الجنود المقتولون غدرا. هل رأيت من بين كل التماسيح النخبوية الباكية مَن تحدث/يتحدث/سيتحدث عن حياة الحثالات التى يتلقهاها هؤلاء الجنود داخل الوحدات؟ الماء الردىء، والأكل الردىء، ومعاملة الأباطرة الزناة، والكرامة الممتهنة، والآباء الذين يسبهم السادة أكثر مما يذكرون الله! يُستدعى الحثالات إلى واجهة المشهد – فقط – حين تقتضى الحاجة؛ وأنا الذى ما ذقت لحم الضان، أنا الذى لا حول لى أو شان، أنا الذى أُقصيت عن مجالس الفتيان، أدعى إلى الموت ولم أُدع إلى المجالسة.

وفى علاقة السادة – الحثالات، ينبرى الحثالات للدفاع عن السادة بكل طريقة ممكنة، أحيانا أكثر من السادة أنفسهم؛ فيضرب السادةُ الحثالاتِ بالحثالات، ويخدعونهم ليخوضوا معاركهم بالنيابة، بينما يتمددون فوق خط الثراء، الذى لا نعرف ما يحدث فوقه.
 
Posted by Muhammad | Permalink | 6 comments
Sunday, August 18, 2013,10:57
تشوّش
مثلما كانت الأرضُ خضراءَ نقية، براءةً غفلا، كما خلقها الله، كان للموت هيبة. مرت قرونٌ فظهر الفسادُ فى البرِّ والبحر، فلا عادت الأرضُ كذلك، ولا بقى على هيبتِه الموت.

هاملت الذى يحرص فى لحظاتِ احتضاره المهيبةِ التى تضفى عليها التراجيديا جلالا (هو قرينُ الرهبة) لا يرحل هكذا دون أن يدعَ لـ هوراشيو الرفيقِ وصيةً/كلماتٍ أخيرةً يُكلِّلُ بها دماءَ الموقف. ورغم الموت الذى يضرب فى هذه الدراما الشكسبيرية، أحيانا غرقا جنونيا فى بِركةِ ماء (كأوفيليا)، إلا أنه – الموت – لا يبدو ابتذاليّا على الإطلاق. هالةُ العظمةِ هناك تحيط برءوسِ الجميع، حتى الأشرار.

متى – تحديدا – صار الموتُ – هكذا – مبتذَلا وعاديا وبالمجان؟ منذ دلفنا من بوابةِ عصرِ الإنسانِ الصغير؟ بتوقّفِ الكُتّابِ عن التعاطى مع البشرِ الآلهةِ الإغريقيين، والأرستقراطيةِ التى نجدها فى ملوكِ شكسبيرَ وأمرائِه، وتحوّلِهم – عوضا عن ذلك – إلى الإنسانِ العادىِّ الذى يصوّره تشيخوف، ويمسخُه كافكا، وتسحقُه – كما عند د. هـ. لورانس – آلةُ التصنيع؟

لقد اكتشف الإنسانُ أنه لم يعد مركزَ الكون، مجردَ نقطةٍ فى كونٍ متمدّدٍ فسيح، نقطةٍ لا أبعادَ لها مقارنةً بكلِّ هذا الملكوت. ربما غرّتـْه قدرتـُه على الاكتشاف، غوصُه الفرويدىّ فى النفس، شطحاتـُه الكوبرنيكية والنيوتنية فى الأفلاك، مقارباتـُه الأينشتينية فى الذرّة... التطورُ والكَمّ والاتصالات، لكنّ كل ذلك وإن أوحى له بالعظمة، فقد أوحى له – بالمثلِ – بالضآلة. نحن قمةُ المملكةِ الحيوانية، لكننا حيواناتٌ فى الأخير، حيواناتٌ توجد بوفرة، يشعر تجاهَها سارتر – كتكتّلاتٍ لحميّةٍ – بالغثيان.

ذهب كونُ نيوتن بلا رجعة، ذلك الكونُ الميكانيكىّ الذى لو عرفْنا سرعةَ ومواضعَ جسومِه فى لحظةٍ ما لأمكننا معرفة المستقبل، وجاء هايزنبرج بمبدأ الرِّيبة، لا ليطبعَ الفيزياءَ وحدَها، بل ليطبعَ عصرا بأكملِه، سيتوه منه اليقين، خصوصا بعد تكريساتٍ نيتشويّةٍ تحمل على العقلِ والموضوعيةِ ووهمِ الحقيقة وتنادى بموتِ الإله/المعنى. كان كل شىءٍ دافعا إلى مقولةِ صلاح فى "مأساة الحلاج": لا أبكى حزنا يا ولدى بل حيرة/من عجزى يقطرُ دمعى/من حيرة رأيى وضلالِ ظنونى/يأتى شجوى ينسكبُ أنينى.

ربما لا نبالى – ونحن المتأثرون بنظريةِ التلقى والتفكيك – بقصدِ المؤلفِ الذى أعلن موتـَه بارت ومِن بعده فوكو، لكن دعونا نتجاوز هذه المَرّة. قصص "الديكاميرون" لـ بوكاتشيو الذى يُسمى الحب "خطيئةَ الحياةِ الصغيرةَ غيرَ الضارة" – "دون كيشوت" سرفانتس وفارسها الأحمق الذى يحاربُ الطواحين – ألف ليلة وليلة... إلخ، هل قصدَ كُتّابُ هذه الأعمالِ كل هذا الذى نخلعُه عليها من تعقيداتٍ بعد أن لم يعد فى مقدورنا سوى التعقيد؟ كل هذه المراراتِ التى نُلْبِسُها هؤلاء الأبرياءَ، هل دارتْ – حقا – لهم ببال؟ ربما لن تعنينا إجابةُ هذا السؤال، لكنها كاشفةٌ عن مدى ما صرنا إليه من قتامة! وعندما شاهدتُ الفيلمَ الإيرانى A Separation، لم أملك – واكتموا ذلك – غيرَ البكاء؛ صارت الأمورُ على نحوٍ من التعقيدِ الذى نعجزُ معه عن إصدارِ أحكامِ الخطأ والصواب، هذا العجز المُفضى – وارجعوا ثانيةً إلى "مأساة الحلاج" – إلى الدمع. ومع ديستويفسكى، نعايشُ القاتلَ "راسكولينكوف" الذى لا يقتلُ من أجلِ المالِ أو الثأر، بل ليـُثْبِتَ – فقط – أنه جديرٌ كنابليون. حبيبتى، تغيّرَ الزمان!

يبدو أن الإنسان أوديبىّ بطبعه، وليعذرْنا الوجوديون على هذا التجاوزِ الذى قد يرونه أسبقيةً للماهيّةِ على الوجود، ومأساةُ أوديبَ – كما رأيتُها دائما – تكمنُ فى بحثِه من حيث كان عليه التوقف. دعونا – الآن – من ثيماتِ صراعِ القدَرِ التى تتبدّى فى التراجيديا الإغريقية، ولنركزْ على هذهِ النقطة: أوديب الذى يُصرّ على معرفةِ الحقيقة، فتنتهى رحلتُه فى الفجيعة: يتزوج أمه، ويفقأ عينيه!

ما الذى أكتب؟ لا أدرى! إنها واحدةٌ من "تلك اللحظات"، حيث يكون بمقدورِ المرءِ أن يكون أكثرَ تماهيا مع الجيلِ الضائعِ الذى أعقبَ الحربَ العالميةَ الأولى، فيفهمَ المناخاتِ التى ظهرتْ فيها الداديةُ والسرياليةُ والرجالُ الجوفُ والأرضُ الخراب. نحن محشوّون قشا وقتامةً يا رفاق!

وكنت قد أخبرتك يا حبيبتى أننى سأعمد إلى الحزنِ الذى فيك، فأجتثه – من النفس – اجتثاثا. لقد كذبت؛ ما ترسّخَ حتى الثلاثين عصىّ نزعُه، وفاقدُ الشىءِ – قالوا – لا يعطيه.

السماحَ، السماح!
 
Posted by Muhammad | Permalink | 4 comments
Saturday, August 17, 2013,07:06
انظر خلفك فى غضب
ما ارتكبَ الإخوانُ خطأً إلا وقع فيه خصومُهم، والذين اتهموهم – أمس – بالعسلِ مع العسكر، جاءوا القصورَ على دباباتِ العسكر، والذين سبّوهم على تركِ الميادينِ ضدّ العسكر، يُسْلمونهم – الآن – كأبشعِ ما يكونُ التسليمُ – للعسكر، والذين لاموهم لدسترتِهم وصايةَ العسكر، تركوا الدستورَ بأكمله للعسكر. الكلّ شائهٌ وخسيس، وطوبى لمن حادّ العسكرَ فى محمد محمود ومجلس الوزراء والعباسية ورابعة وما هو آت .. خطّ واحد، قَلّ مَن ثبـُت عليه.

والثائرُ العاهرُ يبكى لـ "طنطورية" رضوى عاشور، ولِما كان من وقائعِ حياةِ رقية، ثم يباركُ سلطاتِه التى تحاصرُ أحفادَ رقية حصارَ اليهود .. حصارَ الدودِ واليهود. الكهرباءُ لنا، والوقودُ لنا، وقد حرّم اللهُ على المسجدِ – فى ملتِهم – ما تحتاجُه البيوت. حرّمَ اللهُ أجسادَهم على الجنة!

وتجديفٌ أن تتهمَ كُتّابَنا الأشاوسَ الأحامدَ الأحاسنَ بالانسياقِ – غنمًا – وراءَ الميديا، لكننى أجدِّف. وعُمدتى فى ذلك لا مقولاتُ الإسلاميين، بل مقولاتُ بودريار عن مجتمعِ الصورةِ التى صارت تُحيل إلى نفسِها لا إلى الواقع، ومقولاتُ دولوز وفلاسفةِ الاختلافِ عن السلطةِ التى توشكُ أن تتبدّى فى كلِّ شىءٍ (أو هى كذلك). ومن ذا الذى بمقدورِه أن يعارضَ – بين الإنتليجنسيا – سلطةَ خطابِ "تخوينِ الإخوان"؟

أسلمتُمُ الإخوانَ (الذين ما انفردوا بجريرةٍ) منذُ زمنٍ بعيد، وما زلتـُم. فإما أننى – تيريزياس ذا الثديينِ الأنثويينِ الأجعدينِ – شاهدُ زور، وإما أنكم فعلتـُم، وقد أكون قد وقعْتُ معكم فى نفسِ الجُرم! وفى كلِّ الأحوال، عند اللهِ تلتقى الخصوم. ألم أقل لكم إن القيامةَ فصل؟

تحسبون ذلك من قبيل Survivors Guilt؟ ليس كذلك! لقد نوّهنا عليه قبل أن يحلّ موسمُ الحصاد .. حصادِ الرءوس!

ربنا أخرجنا من هذه القريةِ الظالمِ أهلُها.
 
Posted by Muhammad | Permalink | 3 comments
Friday, August 16, 2013,09:21
Irreversible
كنتُ على طرفِ الجسر، وكنتَ على الطرفِ المقابل، ثم سقط – بيننا – جسرُ لندن. صدِّقنى يا رفيق، حاولتُ طويلا أن أمدّ يدى. قلتُ سأعترفُ بأخطائى كاملة، ولتعترفْ، ولنتلاقَ فى المنتصف، لكنك أبيتَ إلا أن تُحمّلنى الجريمةَ وحدى، وكأنك ملاكٌ ما اقترفَتْ يداكَ ما اقترفتْ يدى، وكأننى شيطانٌ محضٌ لا مقدسَ له.

الآن إذ سقط الجسرُ صار كلّ شىءٍ متأخرًا عن موعدِه: القطارات، السفن، وأصابع المصافحة. تلومنى؟ فات أوانُ ذلك بالمثل؛ ما عاد للّوم بيننا طريق. توازت طرقُنا فلن تلتقى. وسيتابعُ كلانا قضبانَ الكراهيةِ حتى المُنتهى. تلومنى؟ وتحسبنى أعبأ بنبرتِكَ المتهدجة؟ وتحسبنى أعبأ بك؟ مضحكٌ أنت يا رفيق. لقد انتهى ما انتهى، وليس بعد النهايةِ بدء.

لغتُك غريبةٌ بالكليّة. ما عدتُ أفهمك، وما عدتُ أرغبُ فى ذلك. تستشعرُ الشىءَ نفسَه؟ وهل أبالى أن أعرف؟ أفقْ يا رفيق، نحن جنسان مختلفان، ومساحةُ واحديّةِ الهمِّ لم تكن غيرَ وهم. همّك همّك، وهمّى همّى. همّك همّك، وهمّى لى. لنكفّ – إذًا – عن التظاهرِ بما لم يعد حقيقيا بالمرة؛ لقد انهارَ جسرُ لندن.

دائرتانا المتقاطعتان تباعدتا، فظلتا متماستين، ثم تباعدتا. صارتا خطّينِ مستقيمين، وكلّ خطٍّ ينزاحُ فى اللانهايةِ بعيدا عن صاحبِه. لقاؤُنا مستحيلٌ يا رفيق. لقاؤُنا ضدّ قوانينِ الفيزياءِ والرياضيات، ضدّ طبيعةِ الأشياء، وعلينا – الآن – أن نقفَ لحظةً واحدةً قبل المنحدر؛ لنعترفَ – ككائنينِ ناضجين (متمايزى الجنسِ) – بذلك، ثم ليسقطْ كلانا فى هُوّتِه. وهُوّتى ليستْ هُوّتـَك، وهُوّتـُكَ ليست هُوّتى. ما عاد ممكنا – حتى – أن تجمعَنا هُوّةٌ واحدة.

كنا هناك سويّا فى ذاك الشتاء. تذكرُ ذاك الشتاء؟ كانت أحلامُك عريضة، ألم تكن كذلك؟ وكان حُلمى فسيحا كالمدى. كانت السماءُ فى مرمى الأكف، ألم تكن السماءُ – يا رفيقُ – فى مرمى الأكف؟ ثم ابتعدتِ السماء، وابتعدنا، وتلاسنّا، وتصارعنا، وتخليتُ عنك، وسخرتَ منى. لكننى عدتُ فمددتُ يدا، ألم أمدّ يدا؟

تحسبُ أننى أستميلك؟ لا، يا رفيق. إنه شجنُ التذكرات، وفرحةُ أيامٍ ما أحببتُكَ قطّ كما أحببتُكَ فيها. أما الآن، فصدّقنى، لقد فاتَ الأوان. ولولا لحظةُ صفوٍ عابرةٍ لكنتُ منشغلا بكراهيتِك، التى سأعودُ إليها ما أن أكفّ، ما أن تروحَ عنى وتعودَ إلى بنى جنسِك، وما أن أعودَ إلى مَن يعرفونَ ملامحى وخطوطَ يدى.

أكرهُكَ وأزدريك، وقد فاتَ الأوان؛ فقد انهارَ – بيننا – جسرُ لندن، ولا رجوع.
 
Posted by Muhammad | Permalink | 2 comments
Thursday, August 15, 2013,19:06
وحِملٌ للآتين
وتظنون أننا سنَبيد؟ لا، لن نَبيد. وسنمرِّر لأبنائنا عقيدتَنا فى اللهِ، وملائكتِهِ، وكتبِهِ، ورسلِهِ، واليومِ الآخرِ، والقدر.

سنقولُ لهم إن اللهَ فى السماء، فوقَ عرشِه، بائنٌ من خلقِه، لا يحلّ فى عبادِه، ولا يتّحدون به، ولا هو عينُ الموجودات. سننقلُ لهم عقيدتَنا فى أسمائِهِ وصفاتِه، ولو أسميتمونا حشويةً ومُجَسِّمَة. تعالى اللهُ أن نصفَهُ بغيرِ ما وصفَ به نفسَه، أو وصفَهُ به نبيّه. متّبعينَ غيرَ مبتدعينَ ولا معطّلينَ ولا مشبّهين. لكم المذاهبُ حلولية واتحادية ووحدوية ومعتزلية وأشعرية وماتريدية وفلسفية... ولنا نهجُ السلف.

سنقولُ لهم إنه سيكون بين ظهرانيكم مَن إذا ذُكرَ اللهُ وحده اشمأزتْ قلوبُهم، وإذا ذُكرَ الذين من دونِه إذا هم يستبشرون. سيضيقون بكم إذا أحَلْتم إلى الآيةِ والحديث، وسيقبلونكم شريطةَ "أنسنة" الديانة. ستستشعرون اغترابا، وستُعادَون حتى تدَعوا ما أنتم عليه؛ فما جاء أحدٌ بمثلِ ذلك إلا عاداه قومُه، قالها ورقةُ لمحمد، وهى ساريةٌ إلى يومِ تُبعثون.

سنقولُ لهم إن اللهَ لا يقبلُ سوى إسلامِ محمدٍ بنَصِّ الكتاب، وإن ما عدا كتابكم من كتبٍ محرّفٌ لا يُعوّلُ عليه فى العقائد، وإن اللهَ قد بعثَ محمدًا ليُخرجَ (ومَن معه) العبادَ من عبادةِ العبادِ إلى عبادةِ ربِّ العبادِ – يقول الربعىّ بن عامر –، فلا تُقِرّوا أهلَ باطلٍ على ما هم فيه، إذن تكونَ خيانةً لهم ولأنفسكم.

سنقولُ لهم إن الدينَ الذى ارتضاه اللهُ لكم هو دينُ "قلْ إن صلاتى ونُسُكى ومحياىَ ومماتى للهِ ربِّ العالمين"، الدين الذى يسرى فى الحياةِ مسرى الدم، لا الدين الذى ينفصلُ ويستحيلُ شعائرَ لا تُمارَسُ إلا فى بيوتِ الله، فإذا ما خرجتم عزلتموه وغيّبتموه.

سنقولُ لهم إن صحابةَ محمدٍ عُدولٌ كلّهم، لا نستثنى منهم معاويةَ ومَن معه، وإن نساءَ النبىّ من آلِ بيتِه، وآلُ بيتِهِ – كصحابتِهِ – أئمةٌ راشدون، وسنعلّمهم الترضّى على أبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ ومعاوية والحسنين وفاطمة وعائشة وحفصة وسائرِ الصحابةِ وآلِ بيتِ النبوّة.

سنقولُ لهم إن دينَكم لحمُكم ودمُكم، قبلَ الوطنِ يأتى، وقبلَ العشيرةِ الأقربين، عليه يكونُ الولاء، وعليه يكونُ البرَاء، وسنعلّمهم فِيمَ يكونُ سائغُ الخلافِ، وفِيمَ لا يكون.

وسنقولُ لهم إن كلّ ابنِ آدمَ خطّاء، ولو لم تُذنبوا لاستبدلَ اللهُ بكم مَن يُذنبون فيستغفرون، فلا تجعلنّ أخطاءَكم بابًا لشرعنةِ الخطأ؛ إراحةً لضمائرِكم، أو تجمّلا فى عيونِ الأغيار؛ فإنكم لستم بخادعى الله، بل سَمّوا أخطاءَكم كذلك، وسَلُوا الله التوبة.

وتظننون أننا سنَبيد؟ ولو كان! إن ما بين جُنوبِنا بين جُنوبِنا، والقيامةُ فصل.

...

إن العينَ لتدمع، وإن القلبَ ليحزن، ولا نقولُ إلا ما يرضى ربنا، وإنا لفراقِك يا ابنَ العمِّ لمحزونون. تقبّلك اللهُ فى الشهداء.
 
Posted by Muhammad | Permalink | 7 comments
,06:17
14/8/2013
 
Posted by Muhammad | Permalink | 0 comments
Monday, August 12, 2013,05:37
راديكالية لا أعتذر عنها
أتوقف إزاءَ مقولةِ تشرشلَ الشهيرةِ عن التاريخِ الذى يكتبه المنتصرون، فلا أقبلُ ولا أرد؛ لما للأمرِ من مآلات، غيرَ أنى – فى كلِّ الأحوالِ – قد حسبتُ أنهم يكتبونه بعد الفراغِ من المعاركِ وإفناءِ المهزومين، لكنّ مشيئةَ اللهِ قد سبقتْ بالمدِّ فى الأجلِ حتى أرى العالمَ مقلوبا رأسا على عقب، وأحداثَ التاريخِ تُزيّفُ تزييفا مُرا بقصدِ السادةِ وتواطؤِ العبيد.

نكاتُ الأمسِ حقائقُ اليوم، والذين امتدحناهم فى فبراير لدورِهم فى "الجمل" صاروا – هكذا فى فجورٍ تام أمام العيون التى لا ترى (عمدا أو جهلا) – صاروا الجناة، وسطَ بهجةِ الجماهيرِ التى احتقرَ ديمقراطيتَها سقراطُ، وعقولَها شكسبيرُ، واستحمرها الطغاةُ "الوطنيون".

والناسُ – يقول رابعُ الخلفاءِ – ثلاثةٌ: فعالمٌ ربانىّ، ومتعلمٌ على سبيلِ نجاة، وهمجٌ رعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ، يميلون مع كلِّ ريح، لم يستضيئوا بنورِ العلم، ولم يلجئوا إلى ركنٍ وثيق.

ومثقفونا حثالاتٌ تموتُ لو خرجَتْ من ماءِ السلطة؛ فيكفوننا مئونةَ التأصيلِ لـ "موت المؤلف"؛ هُمُ الأحياءُ الموتى، ولا مؤلفَ منذُ اليوم – أنا المؤلف. وشكرًا لبارت وفوكو.

هَمّ السوريين هَمّى، وهَمّ الفلسطينيين هَمّى، أنا من حماس وحماس منى، رحمَ الله المجاهدَ أسامة، ولتأكلْ من خشاشِ الأرضِ وخراءِ الدوابِّ أيها القارىءُ المخاتلُ – لستَ شبيهى ولستَ أخى! لك قيمُ التنويرِ والحداثةِ، تابِعًا تعيشُ وتابِعًا تموتُ، وتدخلُ – خلفَهم – جحورَ الضبِّ، ولى أصوليتى، لا أعتذرُ عنها.

هو انقلاب!
 
Posted by Muhammad | Permalink | 6 comments
Thursday, August 01, 2013,00:26
انقلاب
هتفْتَ يومًا ضدّ حكمِ العسكر، ثم راودوكَ عن نفسِكَ فأدرتَ لهم الظهرَ وأحنيتَ الهامة؛ ليضاجعوكَ – كعاهرةٍ – من دبُر؟ جاءتْ رياحُهم بما اشتهَتْ سفائنُكَ الرخيصةُ فصفّقْتَ وهلّلْتَ وخدعْتَ ذاتَكَ والآخرينَ وشرعْتَ فى التبريرِ لهم ولداخليّتِهم ولحلفائِهم الذين ما اسطاعوا المجىءَ إلا على ظهورٍ مدرعة؟ أعرفُ أنه ما كان بمقدورِكَ أن تفعلَ غيرَ ذلك؛ لأنكَ ما أنت؛ لأنكَ حثالةٌ يا رفيق؛ لأن الدودةَ فى أصلِ الشجرة؛ لأن أفكارَكَ لقيطةٌ وابنةُ زنا؛ لأنكَ قوّادٌ سياسىّ بالأساس، لا تبالى بالمبدأ حين ترتمى عشيقتُكَ على سريرِ السلطة. المهمُ – فقط – أن تصلَ إلى السرير.

هو انقلابٌ يا حثالةَ المناضلين. هو انقلاب!
 
Posted by Muhammad | Permalink | 12 comments