Friday, April 27, 2007,09:09
وكان أن قال

السيف أصدق أنباء من الكتب

 
Posted by Muhammad | Permalink |
Saturday, April 21, 2007,02:03
عن العراق، وأشياء أخرى

أما العراق الذي أعرفه فلا حرب فيه ولا ساسة .. وطن خالص من البلح والكلمات .. تفتحتُ - في صباي الشعريّ - على إيقاع رواده فأنسوني حضور الآخرين .. حتى عبد الصبور الذي انحزت إليه فيما بعد لم يفلح في انتزاعي من جلابيبهم، وخصوصا جلباب السيّاب الذي رأيته - ولا زلتُ - أعظمَ المعاصرين.

كنتُ حديثَ عهدٍ بتهاويمِ الرومانسية، ولغةِ الكلاسيكية، فعرفتُ نفسي في غنائيّته، وجذبتني عظمةُ قاموسه. أتذكّر الآن - بعد سنين في الشعر - فرحتي حين اكتشفت أعماله الكاملة أول مرّة في السنة الأولى لدراستي الجامعية. لم أكن قد قرأتُ للتفعيليّين غير بعض شذرات هنا وقصائد هناك. بدا خوض مائهم نوعا من المغامرة، فكان عهدي معهم أن أكشف عن ساقي قليلا ثم أترك الثوب فارّا حين تشتد الأمواج .. ذلك الإحساس الحذِر الذي تستشعره إزاء كل شيء لا تعرفه.

نفّرتنا "نسور" إبراهيم أبو سنة في المرحلة الثانوية حتى حالت بيننا وبين تذوق الحساسية الجديدة. كنا قد اعتدنا عمود الشعر في الدراسة السابقة حتى ظننا أي مسّ به نوعاً من التجديف، خصوصا وقد تلقينا النصوص الأدبية على يد أساتذة لا يدرون أصلا ما الأدب (وللتاريخ، أستثني الرائع حامد شرف الدين الذي علّمنا كيف نحبّه: شخصا، ومعلّما، وإلى حد بعيد لا منتميا). أقول لم يكن سهلا أن تتخللنا "النسور" في تلك الأيام، لا عيبا في القصيدة، بل في المتلقين أنفسهم. لم نشعر أيامها بإيقاع القصيدة الذي حدثونا عنه، ولم تقنعنا - نحن معتادي العمود الشعريّ - قافيتُها .. إلى أن أذن الله فكان التحوّل.

جذبتني مطولاته التي أبهرتني كَمّا وكأن الرجل يغترف من بحر (المومس العمياء)(حفار القبور)(الأطفال والأسلحة). لا تسعفني الذاكرة بالمزيد، لكنها تسعفني بجيكور وبويب - قريته الصغيرة ونهره الصغير اللذين خلق منهما السيّاب أسطورته الخاصة. قرأتُ ترجمته الموجعة وحاولت وأصدقائي تشخيص حالته الصحية. حاولت معهم - فيما بعد - اكتشافَ سبب إقرارنا بأنه الأعظم رغم قناعتنا أنه ليس الأفضل. حين تتسامق القامات وتشعر أمامها بالضآلة، لن تنشغل كثيرا بالأفضلية. فقط ستعلم أن الحياة والشعر يتسعان للجميع. لأنشودة المطر العراقيّة، ولأنشودتنا المصريّة - أو بالأحرى، لأنشودتنا الخاصة: صلاح عبد الصبور. ليظلَ ميلُنا إلى الأخير محضَ ميلٍ ذاتيّ ننأى معه عن المقارنات. وإن كان هو ذاته قد ساهم في تفتح وعينا للعراقيّين - وغيرهم. إذْ تركّزُ على مشروع أحدهم الشعريّ، تتكشف الفوارق بينه وبين الآخرين، فيتفتح وعيك لما يميّز كل شعرية مغايرة. وكم أفادتني قراءة عبد الصبور في فهم ما يشبه فوبيا الموت عند نازك الملائكة.

أعود من تذكّراتي مع السيّاب فأصطدم بالعراق الراهن وما يحدث فيه. يطرقني نفس الخاطر الذي طرقه (أيخون إنسان بلاده). أشتهي ما اشتهى (ليت السفائن لا تقاضي راكبيها عن سفار). لأنتهي إلى نفس الموقف (لتبكينّ على العراق فما لديك سوى الدموع - وسوى انتظارك دون جدوى للرياح وللقلوع).

ويبدو أنني لم أحبّ من العراقيين غير سريعي اليأس، فالبياتيّ الذي غنّى للفقراء والثورة لم يستهوني كثيرا. ربما لإيماني أن الشعر الأخف نبرة أكثر قدرة على التجاوز، وهو ما حققه البياتيّ نفسه حين هدأت نبرته وازدادت تقنياته بعد أعماله الأولى. لكنْ لسبب لا أدريه ظل جدارٌ من نفورٍ قائما بيني وبين الرجل حتى وإن هِمْتُ حبّا ببعض ما كتب. نفس الجدار - الأكثر سمكا في هذه الحالة - الذي يفصلني عن عبد المعطي حجازي رغم ولعي بإنتاجه.

أرضتني قصائد البياتيّ عالية النبرة في أيامي الأولى .. تلك الأيام التي كان كلّ شيء فيها عالي النبرة: الشعر الذي أكتبه، والشعر الذي أقرؤه، والسياسة التي أتعاطاها، والبيت الذي يقنعني بالممارسة الطبية والتخلي عن جرب الشعر، والواقع اليوميّ الذي يسيطر عليه الأخوان المسلمون داخل الحرم الجامعيّ، وأحيانا خارجه. كرّرتُ معه يوميّات سعيد الذي أتى من الجنوب، وعرفتُ معنى أن يكون الإنسان متسولا، عريان، في أرجاء عالمنا الكبير. وأغراني عصر المصانع والحقول - تماما كما أغراه - بقتل القرد الخليع، غير أن القرد كان أكثر خلاعة منّا، فمتنا مع الخريف ولم يمت.

أما عن النساء، فقد طغت على القلب ملك عبد العزيز برقة همسها حتى حالت - طويلا - بيني وبين كل شاعرة أخرى. لكن لسبب لا أدريه - ربما ملّتني - تنازلَتْ طوعا عن أجزاء في القلب سرعان ما احتلتها الأخريات، وكانت الراهبة نازك الملائكة أولاهن في الدخول. عرفتُها شاعرة (لا مُنظّرة) في مجموعتها "يغيّر ألوانَه البحرُ" لتبدأ علاقة توطدت مع الأيام والاقتراب الحميم من عالمها الشعريّ. ذلك العالم الذي يصادفك الحزن في كل شوارعه ومنحنياته: سوداويا مرة، وشفافا رقيقا مرة. اعتدتُ ترديد كلماتها في تلك القصيدة التي تغرز فيها خنجرا في باب عكّا، وتدكّ تل أبيب دكّا، لكنني كففتُ عن ترديدها حين صرتُ أكثر نضجا وأكثر واقعية .. وبالأخص حين علمتُ أن العلم الإسرائيلي لا يرفرف فقط في سماء تل أبيب، بل أيضا في سماء القاهرة.

لا صوت يشجيني - في الغناء - كصوت كاظم. صوت يغمغم بالكلمات كغمغمة النيران إلى العشب. يتأرجح حتى يتمزق بين الجهر وبين الإيماء. صوت مزروع في أقصى القلب. أحدس عبقريته اللحنية في قدرته المدهشة على الإتيان بما لم يستطعه بعض الأوائل. نفس الشيء الذي نراه عند سيد درويش، وعبد الوهّاب، والرحبانيّة، وبليغ حمدي. إلا أن امتلاكه حساسية العصر هو أكثر ما يميزه عن غيره. ذلك الوعي (ربما اللاشعوري) بوجوده في هذه اللحظة المعينة من التاريخ. فلو صح أن لكل عصر صوتا يميزه، فكاظم - بوجهه الذي يميل للإغماء - أصدق من يمثل عصرنا .. عصر الإنسان المهزوم.

أما العراق الذي أعرفه، فلا حرب فيه ولا ساسة .. بل وطن خالص من البلح .. والموسيقى .. والكلمات.

 
Posted by Muhammad | Permalink |
Monday, April 16, 2007,00:38
الوفرة

شاهدت فيلما لسعاد حسني، ولم أكن - منذ كثير - قد شاهدت فيلما لسعاد حسني.

يتساءل اللامنتمي كيف أعيش الحياة. إلا أن إجابات البرجوازيين لا تعجبه، وطرقهم لا تروقه. يتساءل .. هل باستطاعته أن يحدق في الشمس، وهل باستطاعته - على الأخص - أن يحدق في الموت!

أنت هنا لمرة واحدة .. معلقٌ في الهواء كلاعب سيرك .. ومن تحتك يربض الوحش متربصا، وممسكا بطرفي الحبل .. قد يطل برأسه الآن أو غدا أو بعد غد .. كل الرماة يتركون الميدان من حولك .. تعلم أنك أيضا تاركه مهما طال مكوثك .. تعيش موتك في موتهم .. أنت ميت حي، أو حي ميت.

شاهدت فيلما لسعاد حسني، ولم أكن - منذ كثير - قد شاهدت فيلما لسعاد حسني.

أنت هنا لمرة واحدة .. معلقٌ في الهواء كلاعب سيرك .. تحاول القبض على زمام اللحظة .. تحاول الهصر وارتشاف العصير .. يطل برأسه فتسقط، وتنتهي اللعبة.

ألم أحدثكم - بعد - عن الوفرة؟!

يصف الفيلسوف الوجودي كيركجورد شخصية الـ "دون جوان" بأنه شيطان حسيّ لا منازع له على عرش الأخلاق الكمّية. فالرجلُ الذي يحب امرأة واحدة ولا يبدلها أو يحيد عنها، حتى إذا ماتت ظل وفيا لذكراها وحبها رجلٌ عرف الحب الرومانسيّ. أما الحب الحسيّ فهو الحب الذي يكثر فيه الرجل من التنقل والمغامرات، ولا يخلص فيه لامرأة واحدة، ولا يعترف بالوفاء. يغرر فاوست بامرأة واحدة بينما يلتهم الـ "دون جوان" 1003 امرأة وفتاة. لا يتخير نساءه وإنما يلتقطهن من بين العاديّات، والنتيجة تكرار المغامرة ومضاعفتها، فالجدة لا تستهويه لكن الذي يستهويه حقا هو التجربة. ذات التجربة من جديد كل مرة. ذات الأحاسيس. لا تعطيه التجربة (نوعا) متجددا، ولكن (كَمَّا) متجددا. يقتفي ألبير كامو أثر كيركجورد في تناول الـ "دون جوان" فينفي عنه الرومانسية، فهو ليس حزينا يائسا يبحث عن حب مثالي لا يجده. هو لا يريد أن يتحد مع الحبيبة. إنه يطلب التكرار، ففي التكرار تأكيد للنفس أنها تعيش، وتعيش الحياة في وفرة.

وإذا كان الـ "دون جوان" يمارس الوفرة بالفعل، فالممثل يمارسها بالرمز. يمارسها الأول حياة، ويمارسها الثاني تخيلا ومعايشة. وليس الممثل الذي يعيش الوفرة أيّ ممثل. إنه أعظم ممثل. إنه يحيى الفخراني، وسعاد حسني. يقول كامو: إن فنه - الممثل - هو أن يتلبس دوره إلى أقصى حد، وأن ينفذ ما أمكن نفاذا كاملا داخل حيوات ليست حياته. نفس الشيء الذي ينطبق على الغازي، والغازي عند كامو ليس هو القائد العسكري كجنكيز خان أو نابليون، إنه أقرب ما يكون إلى بروميثيوس. إنه الذي يهتم بالثورة وليس بالنتائج. وهكذا يجمع الثلاثة: "دون جوان" و "الممثل" و "الغازي" الامتلاء (الوفرة) والتكرار والإحساس بالفناء.

إلا أن الإحساس بالوفرة ليس مقصورا على تلك النماذج الكاموية، بل قد نجده عند لاعبي كرة قدم كرونالدينهو أو مطربين كفيروز. وقد يتحقق في أعمق صوره في الدين.

قد نتفق على الأداء المبهر لأحمد زكي من حيث كونه ممثلا، إلا أن الحديث عن سعاد حسني ويحيى الفخراني سيقودنا حتما لمناطق أخرى أكثر دهشة، وأكثر امتلاء بالحياة ووعيا بها .. فما دمت تعي موتك، فستستنزف اللحظة من أولها إلى آخرها، بطولها وعرضها وعمقها وارتفاعها، وهذا ما يفعله الإثنان تمثيلا، وتفعله فيروز غناءا، حين تحلق فوق هذا العالم السفليّ لتغوص فيه وتستشعره. وسواء حلّقت أو غصت، فالأمران يساعدان في توسيع الرؤية، خصوصا وأن التحليق هدفه الغوص .. الغوص الذي يجعلك تحتكُّ وتلامس وتستشعر الغبطة. وحين تشاهد رونالدينهو فإنك - أيضا - تستشعر الغبطة .. غبطة سيطرة الجسد الفرحان على الكرة في جذَل وكأنه وجد نوعا من الاقتراب في تلك الممارسة .. الاقتراب من قاع الحياة. إنك لا تستطيع مطَّ الحياة عرضيا، لكنك حتما تستطيع مطّها طوليا.

أَلاَ أَيُّهذا اللائِمي أحضرُ الوَغَـى
وَأَنْ أَشهدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِـدِي

فـإنْ كُنْتَ لاَ تَسْطِيْـعُ دَفْعَ مَنِيَّتِـي
فَدَعْنِـي أُبَادِرُهَا بِما مَلَكَتْ يَـدِي

وَلَـوْلاَ ثَلاثٌ هُنَّ مِنْ عيْشَةِ الفَتَـى
وَجَـدِّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُـوَّدِي

فَمِنْهُـنَّ سَبْقِـي العَاذِلاتِ بِشرْبَـةٍ
كُمَيْـتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالمَاءِ تُزْبِــدِ

وَكَرِّي إِذَا نَادَى المُضَافُ مُحَنّبــاً
كَسِيـدِ الغَضَـا نَبَّهْتَـهُ المُتَـورِّدِ

وتَقْصِيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ والدَّجْنُ مُعْجِبٌ
بِبَهْكَنَـةٍ تَحْـتَ الخِبَـاءِ المُعَمَّـدِ



تلزم الإشارة إلى كتاب "ألبير كامي - حياته. فنه. أدبه. فلسفته" لـ/ عبد المنعم الحفني، فقد اعتمدت عليه اعتمادا كبيرا في نقل آراء كامي.

 
Posted by Muhammad | Permalink |