Sunday, January 27, 2013,20:00
فى الثلاثين .. أسئلة ومشاريع - التاسعة
آمنتُ – قَـبْلا – أن للتغيير طريقين لا ثالثَ لهما: طريقًا يعمد إلى الفرد فيعيد تشكيلَه على أسس كيفية، وطريقَ الثورة. كنتُ أكثرَ اقتناعا وميلا إلى السبيل الأول، ورغم ذلك فحين لاحت إمكانيةُ ثانيهما لم أتخلف، غير أن القناعةَ القديمةَ قد ترسختْ بعد خوض التجربة.

السياسةُ جربٌ أصابتنى حَكّـتُه حتى انتبهتْ لنفسى. أفقتُ فوجدتنى منغمسا – حتى شحمتَى الأذنين – فى اليومىِّ والعابرِ والتافهِ والخسيس. لم أصبح – بفضلها – إنسانا أفضل، بل كنتُ أتردّى على المنحدر كما يتردّى كلُّ أحدٍ فى هذا الوطن المنكوب. أظهرَتِ السياسةُ بشاعاتٍ كثيرةً ما كنا نعرف بوجودها فينا، وليس يكفى أن نلقى بمغبّتها على نظامٍ سابقٍ أو راهن؛ نحن غزاةُ مدينتنا.

وحدها أسطحُ الأشياء قد انفردتْ بتشكيل كلِّ تفاصيل المشهد. حلّ الضجيجُ، وغاب العمق. حتى أولئك الذين كنتُ أثق فى عقولهم الجميلةِ وضمائرِهم لم يعودوا أفضل حالا. سقط الجميع فى المستنقع. صار عاديّا أن تجد واحدا من رفاق الوعى القدامى وهو يروى لك أكثرَ القصص خرافيةً لا لغاية إلا لإلصاق كلِّ نقيصةٍ بالخصم. اتُّهم العقلُ النقدىُّ واستُبدل بالعمى والحماقة.

يبدو أن كل ثورة تحمل فى طياتها بذرةَ الشقاق. ثار العقاد والمازنىّ وشكرى على شوقى ومدرسته، وألّـفُوا – فى هدم الإحيائيين – كتابَهم "الديوان فى الأدب والنقد". انشغل ثلاثتُهم بهدم أسسِ الكلاسية، إلا أنهم – كما لاحظ أحدُ النقاد – لم يفلحوا فى بناءِ بديلٍ لما هدموه، ثم انشقّوا على أنفسهم إلى حد تلقيبِ شكرى – شريكِ الأمس – بـ "صنم الألاعيب". وحين عاد العقاد والمازنىّ وشكرى إلى الالتحام على هدفِ إسقاطِ نظامٍ فسد، فتجمعوا فى الميادين إخوةً يهتفون "بلادى بلادى"، حتى سقطتْ حناجرُ كثيرة ٌمخرسةً، عادوا – من جديد – فانقلبوا على أنفسهم ومزقوها كل ممزق. ومثلما اصطفّ العقاد والمازنىّ – بالأمس – فى جهة، وشكرى فى جهة، يصطفان اليوم فى جهة، وشكرى فى جهة. لكن لك – أيها القارىءُ العابرُ – أن تتذكر: بعدما فرغا من شكرى، انشقا على نفسيهما.

بدأتْ – قُبيل الثورة – موجةُ الهجرة الجماعية من "بلوجر" إلى "فيس بوك"، فرأيتها نقلةً بين وجودين، أو بين مجالين من مجالات الوجود بتعبير كيركجارد. والمجال الذى يمثله "فيس بوك" يشكلُ معالمَه اليومىُّ والعابرُ والتافهُ والسطحىُّ والمبتذل، وضد ذلك ما يشكل مجالَ "بلوجر". تحسستُُ – أيامها – مسدسى، وارتبتُ من عواقبِ هذه النقلة. ثم كان أن اندلعتْ أحداثُ يناير فهاجرتُ مع المهاجرين حتى اعتلانى نفسُ الصدأ.

كم كتابا – من تلك التى ساهمتْ فى تشكيل وعيك ووجدانِك وكينونتِك قبل الثورة – قرأتَ – أيها العابرُ – منذ يناير اللقيط الذى يدّعى نسبتَه إليه كلُّ أحد؟

انتبهتُ للجرب فعدتُ إلى هذه الذات التى طال نأيى عنها مستكشفا لما تكون. إننا نأتى ونرحل دون أن نفهم أنفسنا بدرجة كافية. حتى ما يبدو بدهيا لكل أحد أنه يعرفه عن نفسه لا نعرفه. هل يملك أيُّنا من الاطمئنان ما يُمَكِّنُ له أن يقرر عن نفسه أشياءَ من قبيل: أنانىّ أم مستعد للتضحية! متواضع أم مغزوّ بالغرور! صعب المراس أم سهل المعاشرة! وهكذا.

"اعرف نفسك". مقولة سقراط الخالدة (والمؤلمة) التى أطلقها قبل قرون. وهل يمكن أن نعرف أنفسنا وسط حمى كلِّ هذا الضجيجِ الذى صارتْ فيه الشَهادةُ بطاقةً تُلصقُ بكل أحد؟

انتهيتُ فى الأيام الماضية من كتاب "الذرة الاجتماعية" لمارك بوكانان، وهو كتاب شائق لا يسعك أن تقبله كله أو أن ترفضه كله. والشاهد من إيراده فى هذا السياق إلقاؤُه الضوءَ على ظواهر من قبيل ما نمر به الآن من جنون. يشير بوكانان إلى شهادات بعض اللاجئين ممن عانوا حربَ البوسنة كما ترِد فى تقريرٍ لبيتر ماس الصحفى بجريدة واشنطن بوست. يكتب بيتر ماس "لقد قُتلوا بأيدى أناس من الصرب، كانوا من قبل أصدقاءهم. أناس عاونوهم فى موسم الخريف السابق على جنى محاصيل حقولهم، وكانوا فى فترة المراهقة قد شاركوهم مغامراتهم وأسرارهم : تخففهم من الملابس ليغوصوا فى نهر 'درينا' فى الأيام الحارة فى الصيف ... استكشاف الدروب المظلمة مع فتيات البلدة العابثات فى الليالى. وفجأة، وفيما يبدو دون سبب تحولوا إلى قتلة".

تمنح مثلُ هذه الكتاباتِ المرءَ قدرةً على إعادة التفكير من خارج الصندوق. تطّرِحُ القوالبَ الجاهزةَ وتعيدُ التفكيرَ بمزيد من العمق. وقد لا تملك – مثلى – تجاهلَ أحدِ الشهادات التى يوردها الكاتب على لسان صبىٍّ – شارك فى أحد الاحتجاجات – عن متعة إحراق السيارات وتكسير واجهات المبانى. كل ذلك – حال مراعاته – مما يغير فى منظور رؤيتنا لأحداثنا اليومية التى توسم بالثورية، إلى الحد الذى قد يُسقط عنها هذه الهالةَ الزائفة. لسنا بالنقاء الذى نحسبه، كما تشير صفاء أحمد. لا نحن، ولا الثورة، ولا الثوار، ولا الدوافع.

أنا واحد ممن قد يروقك – أيها العابرُ – أن تصمَهم بالتهمةِ الجاهزة: تجارةِ الدين، لو كنتَ من الدارجين على لصقها بكل حالمٍ بما نسميه "المشروع الإسلامىّ"، براجماتيا كان أو مخلصا. أومن بالخلافة، وبالتنزيل الأشملِ للشريعة، وبما تعرفه من باقى الأشياء. كلمتان للمحدّث الألبانىّ وللدكتور محمد عبد المقصود أحاول توطين نفسى على ما يثيران من اطمئنان يمحو من النفس غوائلَ التجاوزِ المُفْرِط. يقول العلّامة الألبانىّ: الطريق إلى الله طويل، ونحن نمضى فيه كالسلحفاة، وليست الغاية أن نصل لنهاية الطريق، بل أن نموت عليه. ويقرر الدكتور عبد المقصود أن شيئا لا يقع فى كونِ الله إلا بقَدَرِ الله؛ ولذلك فليس لنا سوى اتباعِ ما أُمرنا به، أما النتائج فليست لنا. والصورة الكلية الناتجة عن الكلمتين لا تدَعُ مجالا لانحرافٍ مما قد يُؤخذ – اليوم – على بعض الفاعلين الإسلاميين، ولا تدَعُ – كذلك – مجالا لقلق. بمثل هذه الكلمات، وبما قاله – منذ قرون – واحدٌ من سلف هذه الأمةِ عن العقبات التى لولاها لشككنا – واللهِ – فى الطريق، تصبح الرؤيةُ أكثرَ صفاءً ووضوحا. لكنّ مزيدا من الوضوح قد يتبدى – وهذه فترة بوحٍ ومكاشفة – حين ينظر المرءُ إلى نفسه بعين الاتهام، فيرى حالَه المغايرَ (وأىّ مغايرة) لحالِ السالكين، ثم ينتظر – يالوقاحته – أن يأتيَه – على غير استحقاقٍ – التمكين.

هل تبادرُ إلى اتهامى أيها القارىءُ العابر؟ يا شبيهى. يا أخى.
 
Posted by Muhammad | Permalink | 0 comments
Saturday, January 19, 2013,09:57
فى الثلاثين .. أسئلة ومشاريع - الثامنة
إذًا. كل مساء بعد منتصف الليل. أطعمة تحل وترحل، مع الثبات الدائم للوجبة الأساس: جبن ولانشون وشرائح البطاطس. وعلى الشاشة، الحلقات المعتادة لـ "راجل وست ستات". وأنا وحدى.

هكذا يتم الأمر فى عَشاء كل ليلة بلا ملل، وبلا رغبة فى التغيير إلى حد لافت. الشىء الذى قد يبدو بحاجة إلى تفسير (لا أملكه)، لكنه مما يثير الانتباه.

ولطول إلف الحلقات نما ما يشبه العِشرة بينى وبين أفراد أسرة "عادل سعيد"، إلى الحد الذى صرت معه أكثر قدرة على تفهمهم وتوقعهم وملاحظة ما يمر مرور الكرام من سماتهم، حتى استفحل الأمر فصار لى فى هذه الكوميديا ما يشبه التأملات، خصوصا فى تلك اللحظات التى يصبح فيها الذهن أكثر اتقادا ومضاءً ولماحية، أو فى الأخرى التى نهجم فيها على الأشياء هجوما مباشرا، ربما دون وساطةٍ من عقل.

من ذلك – مثلا – سؤالُ: هل يتألف الكل من مجرد مجموع الأجزاء، حين يسهم كلُّ جزء – فى الكل – بمقداره، أم يتخذ الكل خصائصَ ربما لا تتوافر فى أىٍّ من الأجزاء، بعد أن يصبح مركبا واحدا له خصائصه المميزة؟ والدافع إلى السؤال كان انسحابَ "رمزى" (سامح حسين) من الحلقات، ليأتى انسحابُه (الجزء) تقويضًا لثنائية رمزى/عادل (الكل) من الأساس، فتكون الخسارةُ كاملةً لا مجردَ نصفِ خسارة!

أما فى الأيام التى تشتد فيها الحياة حد القسوة، فينتابنى نزوع إلى أن أكون "رمزى" (بوصفه براءة غفلا)، نافيا عن الملمات موضوعيتها، ومُرجعا الأمر برمته إلى الوعى المدرِك للملمات، وقديما قالوا إن أخا الجهالةِ فى الشقاوةِ ينعمُ.

فى إحدى الحلقات، يقوم "عادل" – كعادته – بتسريح "رمزى" من العمل، ثم لسبب – لا حاجة لذكره – يعود "عادل" لاسترضائه واستعادته. يدخل "رمزى" إلى شقة "عادل" وفى يده كل ما يحمله من هذا العالم: فِراش، ووسادة، ومَلبس بديل. هكذا، بهذه البساطة يحقق "رمزى" طموحَ "ريان بينجهام" (جورج كلونى) فى "عاليا فى الهواء"، بعد أن أفرغ من حقيبة ظهره كلّ شىء خلا فراشٍ ووسادةٍ وملبسٍ بديل. كن خفيفا.

وهو ما يعود ليؤكده غير مرة – واعيا أو غير واع؛ فحين تنـزل بـ "عادل" نائبة، يهرع "رمزى" إلى تخفيف حدتها إلى الحد الأدنى: "مزاجك مكركر ليه يا دُولة! ... ماحنا بناكل وبنشرب يا عم". وليت الأمور تكون – دائما – بهذا الـيُسر.
 
Posted by Muhammad | Permalink | 2 comments
Sunday, January 06, 2013,17:25
هذا المساء أريد أن أتكلم
مُفتتح: كلُّ إهابةٍ تجرى إلى البحر، والبحرُ ليس بمُبال.

( 1 )

"أحببتكِ مثلما لم يحبّكِ أحد، ومثلما لن يحبّكِ أحد". عندى من الثقة (والدوجمائية) ما يكفى لتقرير هذا، واعتبارِه حقيقة. أحببتِنى؟ أعتقد ذلك. أحببتِنى بما يكفى؟ لستُ أدرى. أحببتِنى كما أحببتك؟ أقطع بالنفى. والآن ...

الآن بعد أن أدرتِ الظهر، وفككتِ القيدَ عن المعصم. بعد أن راح القاسى الوغدُ الذى سبّبَ البكاءات، وبعد أن سقطتْ عن رأسه الهالةُ القديمة*، صرتِ أقربَ إلى السعادة منا إليها معا؟

لا تضيّـقى العينين وقد اعتلتْ شفتاك ابتسامةُ ترفّعٍ وتهكم، قائلةً فى نفسِك: دعى الطفلَ يلهو، فإن فى المشهد من عناصر التهكم ما يكفى دون لمساتٍ وإضافات. انظرى للقصة من خارج، وللأمر بكليّته من عَلٍ، ثم أخبرى السائلَ: هل تكفى كلُّ التبريرات مسوغًا للقطيعة؟ وكنتِ قد وعدتِنى – فى آخر اللقاءاتِ – بنزهة الجبل. تلك المستحيلة التى لم تتحقق قط.

( 2 )

سؤالُها الأثير: تختفى بلا سبب، وتعاود الظهورَ بلا سبب.

سؤالٌ لم أجبْه لبداهته. أختفى بالكبرياء، وأعاودُ بالحنين. الحنينِ الذى ضربتنى موجاتُه فتكسرَتْ على الظهر – منى – والكتفين (والقلب)، بينا ظل منحسرا عن شواطئها منذ وعدِ نزهةِ الجبل. (تلك المستحيلة التى لم تتحقق). قاتلكَ الله أيها الحنين!

قالت صديقة: إنها لن تعودَ – أبدًا – إلى رؤيتك على النحو الذى انقضى. قالت صديقة: إن الهالةَ – إذ تسقطُ – لا تعود. قالت صديقة: إنك لن تفهمَ هذا الشىءَ – فى النساء – أبدا. وقالت صديقة: لن تعرف التجاوزَ طالما تعاملها كنقطة ضعف.

كنتُ لتكرار الرجوع قد تقبلتها – فى حياتى – كنقطةِ ضعف؛ ربما تسكينًا لإهابات الكبرياء هضيمةِ الحق. لكنْ مثلما ذهبَتْ كلُّ إهاباتى لها سدى، ذهبَتْ كلُّ إهاباتِ الكبرياء لى سدى، حتى توقفْت.

والسؤالُ المحير: كيف لم تنتبْها – على مدى الأيام المتطاولات – لحظةُ ضعفٍ واحدة؟ لحظةُ ضعفٍ مما ينتاب كلَّ البشر – طويلِهم وقصيرِهم، سمينِهم ونحيفِهم، أبيضِهم وأسودِهم؟ لحظةُ ضعف!

( 3 )

الآن بعد أن كففتُ عن معاودةِ الظهور، صارت الحياةُ أكثرَ هدوءًا وهناءة؟ صرتِ أكثرَ ارتياحا بموتِ القاسى الوغدِ الذى سبّبَ البكاءات؟ والسعادة: صرتِ أقربَ إليها وحدَك (أو بصحبةِ آخرَ) مما كنا إليها معا؟


* تلك التى أشار إليها بهاء طاهر فى "قالت ضحى" على لسان الإيطالية.
 
Posted by Muhammad | Permalink | 0 comments