Wednesday, November 12, 2008,19:10
تأملات ما بعد الجُرح

مأساة الوجود

كان ديموقريطس وهرقليطس فيلسوفين، عد أولهما الحالة البشرية مضحكة، وباطلة، فما ظهر بين الناس إلا والضحك والسخرية ملء فمه، أما هرقليطس فقد أشفق على الحالة البشرية وعطف عليها، فما انقشع الأسى عن وجهه يوما وما خلت عيناه من الدموع(1).

أما عني فلست أرى من كبير فارق بين موقفَي الرجلين في هذا الوجود الذي تختلط دموعه بابتساماته وأحزانه بأفراحه كمُركَّب لا تنفصل عناصره. ألست ترانا نبكي في أوج الفرح ونضحك في ذروة الإحباط؟!

يقول المعري في داليته التي كتبها في رثاء فقيه حنفي: أبَكتْ تلكمُ الحمامةُ أم غنَّتْ على فرع غصنها الميَّادِ(2)، ليعبر بتساؤله المر عن مأساة هذا الوجود، إذ الحقيقةُ "أن بكاء الحمامة وغناءها إنما يمتزجان في صوت واحد ينطق به الوجود معلنا عن نفسه"(3).

كَبَد

خلقَنا اللهُ في مشقة نكابد مضايق الدنيا(4). نهبط جانب التل فإذا الحياة قد أعطت أملا عريضا وقدرة محدودة. ندرك أن ما تخايل لأعيننا في أيام الصبا الذهبي كان مدى واسعا لا يُمتلك إلا لأهل الخطوة الماشين على الماء أو السابحين في الهواء. "أليس الإنسان محكوما عليه بالإحباط في هذا الكون المتشابك المتناثر الشذرات. وهل عرفنا كل ما كنا نريد أن نعرف، وقرأنا كل ما كنا نريد أن نقرأ من كتب، ووطأنا كل ما كنا نريد أن نطأ من أرض، وتحلينا في عيون كل من أحببنا من نسـاء"(5).

أكون أو لا أكون

كنت أرفض كل تفلسف يحاول خداع الإنسان عن حقيقة موته مهما كانت التبريرات. كان الموت عندي هو الموت. توقفي عن أن أكون. أقول لكم لم يعد الأمر على هذه الشاكلة من السوء. صرتُ أكثرَ تقبلا لحضور الذي بحضوره نغيب، ولولا مخافةُ الله لتمنيته ولتعجلته، إذ "من تراه قادرا على تحمل السياط والإذلال من يد الزمان .. في ظلم كل ظالم، وكل من يصعّرون الخد في صلافة .. ولذعة الصدود للمحب أو تباطؤ العدالة .. وفي التعجرف الذي يبديه أصحاب المناصب .. أو الإهانات التي يلاقيها الكريم صابرا على يد اللئيم .. إن كان يستطيع حسم الأمر بالخنجر لا أكثر؟"(6).

وقتٌ مفقود

التقيتكِ فعرفتُ فيكِ الخلاص من جحيم كونٍ خانقٍ تشابكتْ حلقاته حول العنق. آمنتُ – كمعلمي – أنْ "ليس غير (أنتِ) من يعيدني للفارس القديم"(7). صرتِ ليلى التي حدثتُهم عنها طويلا قبل المجيء .. ليلى التي ستحل في البدن روحا وحياة فينتفض – كالعنقاء – من رماده. غير أنكِ قد أتيتِ بعد فوات الأوان، ورحلتِ قبل حلول الأوان، فكأنكِ وقتٌ مفقودٌ بين الوقتين.

فرصة لم تسنح بعد

خيبتُ الكثيرين وأولهم نفسي. تمنيتُ لو تمنحني الحياة فرصة واحدة لأثبت لكل من أحببتُ كم أحببتهم، لكن الأيام – فيما يبدو – ضنينةٌ فلن تسمح لهذا الحلم – شأن كل حلم آخر – بالتحقق. والحق الحق أقول لكم: تعبتُ من تكسر الأحلام.

اجترار

مثلما يعود المجرم لمكان الجريمة سأعود .. إلى كل شارع طويناه مسرعَين أو متمهلَين سأعود .. إلى كل مقهى أدفأنا كراسيه وداعبنا قططه أو احتمينا خلف زجاجه من زخات المطر سأعود .. إلى كل مطعم تشاركنا فيه الغداء بعد كيلومترات من التمشية وأطنان من الثرثرة سأعود .. إلى كل بقعة جمعتنا سويا سأعود .. وإلى كل شيء فعلناه مجتمعَين سأعود .. أعرف أنني سأعود .. عاجلا أو آجلا سأعود .. وحدي - هذه المرة - سأعود.

مستقبل

لم أعهدني - من قبل - خائفا مما قد يأتي به الغد لكنني الآن خائف. لو أن لِحُجُب الغيب أن تتكشف لي فأطّلع على مصيري بعد عشر سنوات أو عشرين سنة. لو أن لي أن أعرف كيف سيكون موضعي في هذا العالم .. ربما لاطمأن قلبي قليلا .. ربما.

ما لم أخبركِ به

كنتُ أعرف أننا لابد مفترقان، وكنتُ أعجب لمشهدنا في ذلك اليوم البعيد الذي سيضطرنا لوداع لا لقاء بعده. كنتُ أحاول تجميع أجزاء الصورة في ذهني المنهك: كيف ستنسربين من أصابعي كحلم لم يحدث قط وتدعيني أكمل الطريق وحدي، وكيف سأعود - مقهورا - إلى حياتي السابقة كأنكِ قط ما أشرقت. الآن - إذ جاء اليوم - أرفض التصديق ولا أستطيعه. لماذا - بالله - تجمَّعنا وتفرقنا، تأملنا وبكينا، ضحكنا وتحذلقنا، صرخنا وهلَّلنا ما دامت القصة ستنتهي إلى فراق! لماذا نلتقي ما دامت النهاية الوحيدة المتاحة دائما هي الفراق ولا شيء غيره!

لا تمنحني الحياة العسكرية وقتا كافيا للتفكير، وهذه إحدى ميزاتِها القليلة. أنهارُ إذ أفكر ولو استرسلتُ لجننت. لا يغرنك التظاهر الذي صرتُ أجيده فداخلي مزبلة من وجع تفوح روائحها الخانقة حين أختلي وحدي. لا تمنحني وقتا للتفكير لكنني لا أنسى. أرتاح لو نسيتُ ولكنني لا أريد أن أنسى.

لم أعرف جزعا كهذا الذي أجده الآن من قبل. توالت البلاءات في الأعوام الأخيرة ولكنني لم أعرف جزعا كهذا الذي أجده الآن من قبل. يأتي الجزع على قدر التعلق، وتعلقي لا يدع لي منفذا أطل منه على بحور الصبر. حتى "أواخر الشتا" التي أضحكتنا طويلا لم تعد لها القدرة على الإضحاك. صارتْ لسانا تخرجه الحياة شماتة وسخرية واستفزازا .. الحياة: تلك التي صالحتُها بمقدمكِ، و خاصمتُها حين ابتعدتِ .. الحياة: تلك التي أستشعرها - كصخرة سيزيف - ثقلا شديد الوطأة فوق الصدر.

بكائية

بلقيسُ ما أنت التي تتكررينَ
فما لبلقيسَ اثنتانِ(8)




(1)مونتيني.
(2)من قصيدة لأبي العلاء مطلعُها: غير مُجدٍ في ملتي واعتقادي...
(3)الشعر العربي المعاصر - د/ عز الدين إسماعيل.
(4)قال تعالى: "لقد خلقنا الإنسانَ في كَبَد". آية (4)، سورة البلد.
(5)على مشارف الخمسين - صلاح عبد الصبور.
(6)هاملت - ويليام شكسبير. ترجمة الدكتور/ محمد عناني.
(7)أحلام الفارس القديم - صلاح عبد الصبور.
(8)بلقيس - نزار قباني.

 
Posted by Muhammad | Permalink | 5 comments
Saturday, November 08, 2008,19:04
موت

قلتُ لها: حبي لكِ كالموت: حقيقةٌ لا تقبلُ الإنكار
لكنني لم أعرفْ - وقتها - أنه سيشبهُ الموتَ في شيءٍ آخر: كلما فررتُ منه .. ألاقيه

 
Posted by Muhammad | Permalink | 8 comments