Sunday, December 30, 2007,04:12
أنين

مفتتح: نحبُّ من نحبُّ، ونقضي معهم ما شاءَ اللهُ لنا أن نقضي، ثم نرحلُ عنهم - غياباً أو موتاً - ولمّا يعرفوا - حقيقةً - كم أحببناهم.

يا من أحبُّكم. يا معاشرَ من نزلوا القلبَ فعمَروه واستوطنوه. تضيقُ العبارةُ عن بيانِ الحال. وليس يُفصحُ عمّا في الحشا أقوالٌ أو أفعالٌ أو خِلال. اقبلوا - من العاجزِ - العَبرةَ المكتومة .. والنظرةَ الوالهةَ المكلومة .. واللمسةَ المرتعشةَ المحمومة. أقولُ لكم: طريقتُنا في الحبِّ أنْ ليس المنطوقُ كالمسكوتِ عنه. وليس المفضوحُ كالمستورِ منه. وليس من أحبَّ فجاشَ صدرُهُ بالسرِّ حتى باح، كمن كتَمَ فشفَّ فماتَ فاستراح**. عهدُكم مَصون. وسِرُّكم مكنون. وحبُّكم - وإن كتمناهُ - مخزونٌ ومدفون. فإذا ظهر منّا خَطَلٌ في البرّانيّة، فاعلموا أنْ ليس له أصلٌ في الجوّانيّة. ولكنْ يعترينا ما يعتري الفانينَ من تقلُّبِ العادات .. وتبدُّلِ الأمزجةِ والحالات .. وسوءِ التقديرِ والهفوات. لا تغْلُوا إذا بدا منّا ما يستأهلُ العقاب، بل اجعلوه عتابَ الأحبابِ للأحباب. واعلموا أنَّ أجملَ الصفحِ ما يكونُ وقتَ التمكين، وأنَّ الشدَّةَ لا تُوضعُ موضعَ اللّين. فكفى بنا شغفاً خصامُ النومِ حتى يخاصمَكم الحَزَن. وكفى بنا صدقاً ما نجدُه من عُضالِ الداءِ في الروح والبدَن. لا تعاقبونا فيكم بصدودٍ أو هجر، أو قولٍِ غليظٍ أو زجر. فوالذي نفسي بيدِهِ لَقلوبُ العاشقينَ أرهفُ من ذلكَ وأرق، ولَهُم بكم منكم أرحمُ وأرفَق. أتيتُكم بمقالةِ الناصحِ الأمين. فخذوها عني وأبلغوها المُعتبِرينَ والمُستعبِرين. فرُبَّ مُبلَّغٍ أوعى من سامع. ورُبَّ كسيرٍ فؤادُهُ وليس بدامع. يرحمُنا ويرحمُكم الله.

** قلتُ: كلاهما - في الحبِّ - من حافظي العهد، وللكاتمين على البائحين درجةٌ ويد.

 
Posted by Muhammad | Permalink | 4 comments
Thursday, December 06, 2007,14:41
من يوميّات النهر

إلى التي


مفتتح: وأحبّها وتحبّني ... ويحبّ ناقتَها بعيري(1)

جاء قويا كما لم يجيء من قبل. قلتُ راح. وقلتُ هجرنا. لكنه عاد فرفرف في سماء الحي. رأيتُه فعرفتُه. كان أخضرَ يسرّ الناظرين وكان فرِحا. قلتُ هذا هو، فنقر شباكَ القلبِ المبتل (والمعتل).

كنتُ قمرا لا يعرف الاكتمالَ، وكانتْ شمسا. أشرقَتْ فأجبْت. وتمايلَتْ فغنّيْت

وجه حبيبي خيمة من نور
شعر حبيبي حقل حنطة
خدا حبيبي فلقتا رمان
جيد حبيبي مقلع من الرخام
حضن حبيبي واحة من الكروم والعطور
الكنز والجنة والسلام والأمان
قرب حبيبي(2)

أكتب كما يليق بعاشق. أنصب منبرا من وردٍ أزرق وأقوم عليه. أسمّي نفسي إمامَ المحبين وأخطب فيكم. أشدهكم بحلاوة منطقي فتترقون في معارج الوصل. تقولون سَمِّ حبيبَك فأصمت مبهورا بخمر الوجد. إذ أبوح ينكشف الستر ويذيع الخبر. وليس هذا من شِيَمِ أهل الطريقة.

قال يرحمه الله (وكتابُه في العشقِ لم يُسطر بعد): للعاشق أماراتٌ جليةٌ يعرفها كلُّ ذي بصيرة. فحين ترى المرأَ يطيل النظرةَ ويكتمُ العَبْرة، ويشردُ بالذهن دون أن يقبضَ على زمامِ الفكرة، ويتعجلُ الوقتَ للقاء المحبوب، حتى إذا ما لاقاه هتف بالزمن أن يتوقف، وبنفسه أن تهصر العصير وترشف، فيستبطيء ما كان يتعجل، ويتعجل ما كان يستبطيء، ويصمتُ عن دهشةٍ لا عن حلمٍ وأناة، ولا يدري مبتدا أمره من منتهاه، فاعلم أنه من أهلِ الطريقة، وأنه صبٌّ بالفعل وبالحقيقة.

وفي باب الفناء أنه قال: تمتنعُ عليه نفسُه ويصيرُ تبعا للمحبوب، فيحصُلُ المطلوب، ويترقّى إلى حالِ الفناء بعد البقاء، وهو - فيما أعرف يا أحباب - أوجُ ما يبلغه المريد.(3)

أضاءتْني فصرتُ بدرا يعرف الفرح (وكنتُ لا أعرفه). قالتْ أحبُّك فخرجتُ من رحم الهناءة وابتدأ التقويم. خلعْتُ عني ثوبَ الحزن وأقبلْتُ طفلا عاريا يتحسس الأشياءَ بدهشة. بدتْ غريبةً وبدتْ جديدةً كأني لم آلفْها من قبل. رأيتُ أولَ ما رأيتُ (ولمّا تزل عني خِفّةُ الخمر) عينين دافئتين كبسمة. هممتُ بلمسهما فارتعشَتْ أصابعي من الوهجِ، وحالتْ بيننا الأهداب. رأيتُ شعرا منسدلا وأنفا وخدين. رأيتُ شفتين ورديتين وثغرا فريدَ الرسمة لا قِبَلَ لي بوصفه. رأيتُ بأمّ عيني، وليس هذا من أحاديث خرافة.

ثم كان من أمري - بعد أن عرفتُ فيها الإلفَ الذي طال انتظارُه - أن نَمَتْ بداخلي أشجارُ الخوف. كانت أسمنتيةً، وكانت متكلّسة. دَبَّ ذلك الرعبُ الجهنميُّ (الطاردُ للبهجةِ) كنملةٍ حتى تمكّن فتعاظم. حاولتُ دفعَه (وأنا الضعيفُ) فحدّثني عن الفقدِ والدنيا التي لا تدوم على حال. حدثني عن ضريبةِ الفرحِ وثمنِ اللحظاتِ المختلسات. أُجهشْتُ بالبكاءِ ولم أستطع صبرا فبُحْت.

كانت رءوما كأم. حدّثتني عن طائرين يكفيهما من الشرابِ حسوتا منقارٍ، ومن مخازنِ الغلالِ حبتان. حدّثتني - وقد ترقرق صوتُها - عن الجناحين اللذين ينعقدان - في الليل - صرةً من الحنان. حدّثتني عن الغدِ الآتي بالحلمِ المتحقق. وفي غمرةِ الحديثِ بُحَّ صوتي فسكَتُّ واستسلمتُ ورأيت. كان فجرا، وكان من أملٍ متدفق.

وفي الليلةِ الثانيةِ بعد الألفِ الأولى كنا نسير متشابكي الأيدي كغصنين طريين. كنت أحملُ قلبا وكانت تحملُ زهرة. انتفضنا - كطفلين يكتشفان الكونَ - حين تلامسَت الأنامل. أذكرُ (وقد كنت بين الصحو والإغماء) أصابعَها المخمليّة. أذكرُ إغماضةَ عينيها وقد شددتُ على سبّابتها بقوةٍ مخافةَ الانفلاتِ - كحباتِ رملٍ - من كفّي الولهى. وأذكرُ حين عدتُ فأرخيتُ لينسابَ إبهامي سابحاً في راحةِ يدِها الرطبةِ كنهرٍ مملوءٍ بالسكّر. تحسستُ سكّرَها وكدتُ أتذوقه، لكنها انفلتَتْ كفراشةٍ معلنةً انتهاءَ الحُلم. وفي ذلك الشارعِ الهاديءِ حيث لا بشرَ (أو هكذا هُيئ لنا) أفقْت. اجتاحتني عاصفةٌ من رضا. كنتُ سعيدا، وكنتُ طرِبا. كنتُ ممتنا ومتصالحا مع الكون. كنتُ هناك، وكانتْ إلى جواري.

أحببتُ فتبدّلْت. رأيتُ شمساً وقمراً وفراشةً وقوسَ قزح. رأيتُ نهراً وشجرة. رأيتُ رؤيةَ العارفين، وسمعْت .. فاستمتعت. أحسستُني مُرهفاً ورقيقاً وحُلواً كقطعةِ سكّر. ولم أعهدني مرهفاً ورقيقاً وحُلواً كقطعةِ سكّر. خضتُ بحارا من نشوةٍ لم أعلم بوجودها في جغرافيا القلب. وفعلتُ أشياء لم يجلْ بخاطري أنني - يوما - فاعلُها. حين أحببت.

أنصبُ منبرا من وردٍ أزرق وأقومُ عليه متغنّياً بالكلمةِ ومتمنطقاً - كفارسٍ - بالسيف. أرى قلبي وقد أينعَ لحصادِه وحانَ قطافُه، فأنزلُ عن منبري عن طيبِ خاطر. أهمسُ لمحبوبي كما يليقُ بعاشقٍ وأناجيه: أحبُّك. وأمتنُّ للدنيا التي صالحتني بمقدمك. يتحشرجُ صوتي ويغيمُ بي الدمعُ حتى يحتبس .. فأصمُت.

رأيتُني فيما يرى اليقظان. كنتُ معلّقاً على صليبِ الحب، وكانت تتبسّم (أجمِلْ بابتسامةِ حبيبي) وتهدهدني في دعَة فأذوب. أ ذ و ب

ثم قال يرحمه الله (وكتابُه في العشقِ لم يُسطرْ بعد): لنا الله يا أهل الطريقة.


المنخّل اليشكري
(UP)

أغنية حب .. الناس في بلادي - صلاح عبد الصبور
(UP)


قلتُ: إن أمرَهم لَعجب. وما أقسى ما يجدون من مجاهدة وتعب. بحرُهم لا يخوضه إلا مَلّاح، ولا يجتازه إلا من كُتب له التوفيقُ والفلاح. ألا وإن للعشق لَلوعات، وإن للمحبين لَصبوات. ولله في خلقِه شئون
(UP)

 
Posted by Muhammad | Permalink | 3 comments