Monday, February 25, 2013,12:21
ضراعة
يحسب الملحدون أنهم أكثر من المؤمنين ذكاء. على الأقل، كان من عرفتهم من الفريق الأول على هذه الشاكلة. يتوهمون أنهم قد أدركوا من العالم ما لم ندرك، وأنهم أكثر تبصرا بالشر الذى فى الملكوت. صحيح أن الغربة التى يخلفها الإلحاد لا تعدلها غربة: وجوديا وميتافيزيقيا .. صحيح أنها يأس مطبق، وهوة من سواد لا قرار له، غير أن ما يستلزمه الإيمان من طاقة وإرادة أعظم مما يمكن لأىٍّ نسبتُه إلى الإلحاد. أن تكون واعيا بكل شىء، غير غافل، ثم تختار أوعر الطريقين. وليس أبدع فى وصف هذه الحالة من حديثه – صلى الله عليه وسلم – الذى يجعل من القابض على دينه قابضا على الجمر. والإيمان هو اختيار القبض على الجمر، فى مقابل الإلحاد الهيّن الذى يقصُر عن تجاوز الباب المفضى إلى "المفارقة"، لو استعرنا تعبير كيركجورد.

أن يقابلك الوجود بكل هذه المعضلات التى تدفع الملحد إلى التفلت، فمزيد منه، ثم تطأ – بإرادة فولاذية – على كل هذا الشوك، وتُعَبِّده بالتسليم، ليكون منشأ قوتك ضعفك، ومنشأ قدرتك عجزك. ولِعِظَم ما يتطلبه ذلك من إرادة، فأنت تسأل – مستسلما – ذا الحول والطول والقوة ألا يكلك إلى نفسك طرفة عين، وأن يمدك بمدده، الذى لا مدد غيره.

وكلما زاد الاختبار صعوبة، كان عليك أن تزيد من تمريغ أنفك فى تراب التسليم، وأن تزيد من انخلاعك ويأسك وتعطلك من ذاتك (والآخرين)، وأن تزيد من فرارك إليه. وتأملْ قوله تعالى : "ففروا إلى الله".

لا زالت قلوبنا معلقة بغيره وإن ادعينا – جزما – خلاف ذلك. ولقد ضربتنا معاول الحداثة الأوروبية إلى حد التجذر، حتى لم نعد نميز موطن القصور، أو ندرى – أحيانا – بوجوده. أنجب إبراهيم على الكِبَر، وكانت امرأته عاقرا، ولو صح تعلق قلوبنا بنا وحده، لآمنا بإمكان حدوث ذلك لنا، كما حدث لإبراهيم.

وفى تجربتى، كان قلبى ينقبض لكلام الأطباء، وينبسط لكلام الأطباء، ولو صح التعلق، لسعيت فى الأسباب، دون عقد الأمل – بتمامه – على غير خالق الأسباب، ليكون عمل القلب له وحده، وإن أخذت الجوارح – دون تقصير – بأسباب الطب والبشر.

ضراعة: هبنا من الإيمان ما يعلق القلبَ بك وحدك، فلا نجد بغيتنا إلا عندك. لم نعرف لنا ربا سواك نسأله، ونركن إليه؛ فكن لنا، وصب علينا الصبر والتسليم ورضا الانفعالية لأقدارك صبّا؛ فأنت تعلم، ونحن لا نعلم. وثبتنا على هذا الصراط، فلا ثبات لنا بغير مشيئتك. يا إلهى الرحيم.
 
Posted by Muhammad | Permalink | 0 comments
Sunday, February 10, 2013,15:09
فى الثلاثين .. أسئلة ومشاريع - الثانية عشرة
كنتُ وأختى – التى رحلتْ باكرا – فى شرفةِ الدار. نظرتْ عبيرُ – وكانتْ طفلةً – إلى السماء، وأشارتْ للسحب. قالت: هذا ربُّنا. قلت – وكنتُ طفلا – : لا، ربُّنا فى السماء.

المطر بكاء السماء لعذابات أهل الأرض. ومن أكثر الأشياء بعثا على الأسى فى هذه الحياة كذباتنا الصغيرة التى نخفى بها حقائق الوقائع عن القلوب المرهفة. الأم العجوز التى مات ولدها فى الغربة. نخبرها أن تيار الحياة كان أقوى – فى اندفاعه – من أن يقاومه الولد، حتى شغله عن السؤال؛ تحتمل شيخوختُها ألمَ العقوق، لكنها لا تحتمل ألم الموت والمفارقة. المحب الذى يخبر حبيبته أن كل شىء سيكون على ما يرام، وهو يعلم أن شيئا لن يكون على ما يرام. الصغير الذى رحلت أمه دون أمل فى العودة من تلك التخوم التى لا يعود من خلفها أحد. نخبره أنها قد سافرت، وأنها – الآن – عند الله، فى ذلك المكان الذى تسكنه الحور العين .. حيث تتفجر الأنهار، وحيث الراحة فلا تعب. البنت التى غدر بها العريس فى آخر لحظة، والتى تصدق أكاذيبنا (أو تتظاهر بذلك)، مدفوعة بوخز الكبرياء والجرح. الفنان متوسط القيمة الذى نجامله فى أواخر أيامه؛ مخفين حقيقة العبث الذى أضاع فيه العمر سدى؛ الغروب بارد بما فيه الكفاية. المرضى الذين لا نخبرهم بحقيقة المرض، حتى ليستحيل السرطان مجرد آلام مَعِديّة، ستجدى معها الراحة (والأدوية)؛ طمأنينة النفس نعمة السنوات الأخيرة. المشاهير الذين انحسر عنهم كل ضوء بعد سنوات ملءِ السمع والبصر. اتصال مباغت يعيد بناء كل الأمل، واستعدادات – مبالغ فيها – للعودة إلى مركز الدائرة، ثم تظهر الأسباب الحقيقية للمكالمة، فينهار – فى لحظة – بناء البدن. تصنّع البسمات فى وجه الصغار؛ إزاحةً لموجات الحزن التى تدهمهم فى عذوبة طفولتهم التى لم تعرف التجريب، رغم الموجات التى نلاقيها – جوانيا – لنفس أسباب أحزانهم. وفتى ظن أن الحياة ستكون أكثر سخاء مما هى، فوقف – فى الخمسين (لو بلغها) – يقارن الحلم القديم بما آل إليه الواقع، فانذبح صدره، وأشعل لفافة تبغ، وكذب على الذات، وكتب.

المطر بكاء السماء لعذابات أهل الأرض. ومن أكثر الأشياء بعثا على الأسى فى هذه الحياة كذباتنا الصغيرة التى نخفى بها حقائق الوقائع عن القلوب المرهفة. وأكثر من ذلك بعثا على الأسى تظاهرهم بتصديق حقائقنا الزائفة، وامتنانهم لمحاولاتنا الطيبة.

كنتُ وأختى – التى رحلتْ باكرا – فى شرفةِ الدار. نظرتْ عبيرُ – وكانتْ طفلةً – إلى السماء، وأشارتْ للسحب. قالت: هذا ربُّنا. قلت – وكنتُ طفلا – : لا، ربُّنا فى السماء.
 
Posted by Muhammad | Permalink | 0 comments
Tuesday, February 05, 2013,03:01
فى الثلاثين .. أسئلة ومشاريع - الحادية عشرة
من أكثر الأشياء بعثا على الأسى فى هذه الحياة موقفُ الأمهات اللائى يستشعرن قربَ رحيل قطار الزواج عن محطات البنات. يبدأ القلبُ فى "الأكلان"، ويبدأ النومُ فى الاستعصاء حين يوضع الخدُّ على باطن الكف فوق الوسادة، ويبدأن فى حيلهن الأمومية الطيبة، التى قد تبلغ حدّ اجتراحِ الكبرياء. وكلما أخفق تدبيرٌ، ازداد انفراشُ ظلِّ اليأس على جدار القلب، حتى يمر القطارُ مطلقا صفيرَه الساخر، وقرقعتَه التى تعربد فى جنباتِ الروح، فيكون هذا الانفطارُ الجليلُ الذى يشبه عجزَ الصوفى المستسلم. فى مثل هذه الأشياء، تتجلى تراجيديا الوجود الإنسانى فى كامل عظمتها.

المطرُ بكاءُ السماءِ لعذاباتِ أهلِ الأرض. وفى "معرض الحيوانات الزجاجية" لتينيسى ويليامز، نستشعر هذا الأسى تجاه "أماندا" التى تحتال لتدبير زوجٍ لـ "لورا" العرجاء. ونراها – فى المشهد الأخير – وقد تسربلتْ بتلك التراجيديا النبيلة، بينما تخاطبُ صغيرتَها الهشةَ بما تحسبه سيبعثُ المواساة.

لا يجدى التمردُ فى مواجهةِ هذه الحياة، بل التصوفُ الخانعُ المنبنى على إدراكِ العجز. و "حين فقدنا الرضا .. بما يريد القضا .. لم تنزل الأمطار .. لم تورق الأشجار .. لم تلمع الأثمار". الرضا هو القفلُ والمفتاح. هو المعضلةُ والحل. وأمرُ المؤمن كلُّه خير؛ إن أصابته ضراء صبر، وإن أصابته سراء شكر. تلك الانفعالية للقدر الذى يجرى على الرقاب، وكأننى أقصد إلى شىء من قبيل ما أشار إليه نيتشه بـ "حب المصير".

تلوّيتُ اليوم ألمًا إذ باغتتنى نوبةٌ مفاجئةٌ من نوبات ألمِ الأسنان. دُرتُ – فى الفراش – حول نفسى، وكدتُ أقفُ على أعلى أجزاءِ الرأس. فى المرض يبدو عجزُ الإنسان المثيرُ للشفقةِ العظيمة. وفى المستشفيات تراه وقد انخلع من كاملِ غطرستِه وأبهتِه، فتدركُ حقيقةَ هذا الجنسِ الذى غره ما اكتشف، حتى أضفى على ذاته من مخايلِ العظمةِ ما لا يستحق. وخُلقَ الإنسانُ ضعيفا.

حذرنى الطبيبُ من الألم الذى سيعاودنى هذا المساء. أستبقُهُ بالمسكنات، وأنتظر حلولَه ضيفا ثقيلَ القدم. تنينًا خرافيا يعضنى من خدى الأيمن، حتى أعاودَ الدورانَ حول الرأس، آتيا كل ما لا أعرف من الألعاب البهلوانية. وأستبقُهُ بالكتابة؛ إذ سأكون من أكثر الناس عزوفا عنها، حين يطل برأسه الأفعوانىِّ الغريب. هلّا تمهلَ حتى أعد حقيبتى: فرشاةَ أسنانى، وصابونى، وماكِنةَ الحلاقة، والكولونيا، والثياب؛ فقد اقترب موعدُ رحلتى (غيرِ المرغوبة) إلى الصحراء.

واحدٌ من أجمل ما قرأتُ من تعاريف التصوف. قال: هو الصبرُ على الأمر والنهى. عشتُ أعواما طويلةً يراوغنى مفهومُ التصوفِ كما تبدى لى، حتى وجدتُ ضالتى (أو أقربَ ما يكون إليها) فى هذا التعريف. الصبرُ على الأمر والنهى. يالها من منزلة! ويالها من مكابدةٍ ومجاهدة!

إليكم واحدًا من الأسرار التى لم أبحْ بها من قبل: فى هذا العالمِ العاجِّ بمختلفِ أنواعِ الشرور، أَعجبُ كيف – إلى الآن – لم تُصبْنى تلك "التجربة" الغاصّةُ بالألم .. الألمِ الحسىِّ على وجهِ التحديد. فى العالم أناسٌ يجوعون، وأناسٌ يُعذبون، وأناسٌ يُسحَلون، وأناسٌ يُقتَلون .. إلى آخر ما نعرفه (وما لا نعرفه) من بشاعات. كيف لا يراودنا هاجسُ امتدادِ أذرعِ هذه التجاربِ (وهى كثيرة كالأخطبوط) إلينا. يقول بريخت: صحيحٌ أنى ما زلتُ أكسبُ راتبى، ولكن صدِّقونى، ليس هذا إلا محض صدفة؛ إذ لا شىء مما أعمله يبررُ أن آكلَ حتى أشبع. صدفةٌ أنى ما زلتُ حيّا (إن ساء حظى فسوف أضيع).

تمنيتُ – فى قليلٍ من الأحيان – لو تأتى هذه "التجربة"؛ حتى أفرغَ من سداد الضريبة. لكننى أدعو اللهَ – فى أغلبِ الأحيان – ألا يدخلنى فى "التجربة"؛ إذ لا يعرف الواحدُ منا هل تصمد هذه الصلابةُ التى ندّعيها فى أيام الرخاء!

وكان يُؤتى بالرجل فيمن قبلنا، فـيُحفرُ له، ثم يؤتى بالمنشار فـيُجعلُ على رأسه فـيُجعلُ فرقتين، أو يُمشطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دون عظمِهِ من لحمٍ وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه.

من أجل احتمالِ هذه المجابهة، كانت ضرورةُ عقدِ "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم بأن لهم الجنة"، وما دام المؤمنُ قد باع، فليضعِ اللهُ هذه النفسَ فى قصر، أو فليضعْها – قال القائلُ – فى قبر. لكيلا تأسَوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم.

ليس من عادتنا أن نبوحَ بمثل هذه الهواجس، التى نبقيها أسرى غرفِنا المغلقة، والتى يشيرُ إليها التعبيرُ الإنجليزىُّ الشهير: skeleton in the cupboard (أو in the closet)، لكنْ لا ضير – فيما أحسب – من قليلٍ من البوحِ والمكاشفة، خصوصا وأنا متعبٌ هذا المساء.

كنتُ وأختى – التى رحلتْ باكرا – فى شرفةِ الدار. نظرتْ عبيرُ – وكانتْ طفلةً – إلى السماء، وأشارتْ للسحب. قالت: هذا ربُّنا. قلت – وكنتُ طفلا – : لا، ربُّنا فى السماء.
 
Posted by Muhammad | Permalink | 0 comments
Sunday, February 03, 2013,01:57
فى الثلاثين .. أسئلة ومشاريع - العاشرة
ستُحشر هذه السطور حشرا فى مساحة السياسى التى انقسمنا إزاءها إلى "نحن" و "هم"، خصوصا بعد السعى الحثيث إلى نسف كل جسر ممكن للتواصل، غير أنى أود لو قررت – منذ البدء – أن ما أعالجه – هنا – خاضع للمجال الأكثر رحابة: مجال الإنسانى، الذى نصبح معه أكثر قدرة على التفهم والتفتح والتعاطف. لذا، لو أصررتَ ألا تطّرحَ عنك معطفَ التعصب الحزبى/السياسى/الأيديولوجى، فأنصحك – أيها العابر – أن تتوقف عند هذا الحد، فما أنا بسبيل عرضه سيصيبك – فى أغلب الظن – بشىء كثير من الحنق والغضب، وستتمادى حد اتهام نقطة انطلاقى بالتحيز إلى فئة، رغم تقريرى المسبق – الذى سيذهب أدراج الرياح – عن رغبتى فى معالجة القضية تأسيسا على مقولة على الحجار/عبد الرحمن الأبنودى: "كل اللى عايشين م البشر من حقهم يقفوا ويكملوا .. يمشوا ويتكعبلوا"، وإن أعاق ذلك هذا المجتمعُ المنافق.

لم يكن ما صدمنى فى واقعة النائب البرلمانى السابق "أنور البلكيمى" هو كذبته، بل ردة الفعل المجتمعية التى قوبلت بها تلك الكذبة. ولْـأقررِ – ابتداء – أن جام النقمة قد انصب – بالأساس وفقط – على فعل الكذب ذاته، مستبعدا – بذلك – كل محاولات التجميل الرخيصة التى لجأ إليها البعض، من قبيل الدفاع عن المشتبهين الذين اعتقلتهم أجهزة الأمن للتحقيق فى الحادث المزعوم.

مداخلة ذات صلة: كان من رأى الفيلسوف الألمانى نيتشه أن كثيرا من الفلاسفة لم يكونوا على قدر الموضوعية الذى حاولوا إيهامنا به؛ بزعم التفلسف النزيه المفضى إلى النتيجة. كان من رأيه أنهم قد تبَنوا أفكارهم – ابتداء – ثم شرعوا – لاحقا – فى سوق التبريرات والمسوغات الفلسفية. يقول: كلهم يتظاهرون بأنهم توصلوا إلى آرائهم الحقيقية – واستقروا عليها – عبر منطق متزن خالص غير مكترث بتوافه الكون (وهذا على عكس المتصوفين فى كل حدب وصوب، والذين هم أكثر استقامة، رغم شطحاتهم، ويتحدثون عن "الإلهام")، بينما تكون آراء الفلاسفة فى حقيقتها صادرة عن افتراض ... عن حدس، بل عن نوع من "الإلهام" فى هذه الحالة أيضا. وفى معظم الأحيان رغبة من القلب تمت تنقيتها، وجُعلت مجردة. ثم يدافعون عن اقتناع استمدوه لاحقا، وبمبررات توصلوا إليها بأثر رجعى. إنهم كلهم دعاة يأبون على أنفسهم هذا النعت، بل إن معظمهم مراوغون يسعون إلى البرهنة على أفكارهم التى يتمسكون بها، ويعمِّدونها وكأنها "حقائق".

وهذا هو الحال – بتمامه – فى واقع السياسة المصرية الراهنة. تُتخذ المواقف، ثم تساق لها المبررات بأثر رجعىّ.

البلكيمى واحد من أبناء التيارات السلفية، أجرى جراحةَ تجميل. ولأن ذلك مما قد يثير الحفيظة فى هذا المناخ السلفى المحافظ، عمد إلى كذبته. إن ذلك مما يمكن تفهمه. والتفهم لا يقصد إلى التبرير، فنحن قد نتفهم ارتباطَ الجريمة بالمستوى المعيشى المتدنى، دون أن نضطر إلى تبرير الجريمة ذاتها.

تلك هى الواقعة التى تلقفها كل أحد، فبادر إلى إحناء ظهره، ملتقطا حجرا يقذف به المجدلية، على طريقة الفريسيين والبيوريتانيين، وكأن بكارة المجتمع وطهره ونقاوته قد دنسها البلكيمى بفعلته، رغم أن نفس هذا المجتمع غارقٌ فى الكذب صباح مساء، على مستوى أعضائه منفردين، وعلى المستوى الجمعى أيضا. بل لن تعدم أمثلة – لا حصر لها – من ممارسة الكذب – حتى – على الذات.

عرفتُ بشرا حثالات (ما داموا قد ارتضوا إصدارَ أحكامٍ قيمية) لو تتبعتَ روتينهم اليومىّ لم تجد فيه قيراطا من خير، يُجلسون أنفسهم على منصة القضاء ليحاكموا البلكيمى ... هكذا، بوقاحة متناهية. رأيتُهم وهم يرون القذى فى عينيه، بينما يعجزون عن رؤية الخشب الذى فى عيونهم، لو استعرنا التعبير الوارد فى العهد الجديد. ولو استعرنا تعبير "اللمبى"، فإن جُرم البلكيمى لا يكمن فى كذبته، بل فى انكشاف كذبته.

المجتمع يمثله "السيد أحمد عبد الجواد" (سى السيد) كما صوره محفوظ فى ثلاثيته. إنه الذى يبيح لنفسه كل شىء فى الخفاء حد التبذل، بينما يتخذ – فى العلانية – مظهرَ الرصانة من ناحية، ويحرّم على كل من سواه أن يأتى بمثل ما يأتى من ناحية ثانية. المجتمع لا تعنيه الفضيلة قدر ما يعنيه الحفاظُ على "مظهر" الفضيلة. افعل كل شىء دون أن تنكشف. تلك هى النقطة الجوهرية – وإن خالفنى كل أحد – فى المسألة.

أخطأ البلكيمى، لكنّ خطأه بشرىّ تماما؛ ولذا أتعاطف معه، دون اعتبار اتفاق الفكر – بينى وبينه – أو اختلافه؛ فإن ذلك خارج – بالكلية – عن طبيعة هذا النقاش. ولأن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، فقد أصابنى موقف "حزب النور" بفصل البلكيمى بالتقزز والاشمئزاز. صحيح أن موقف الحزب مما قد يُصوّب سياسيا، لكنه عارٍ من القيمة والخلق. ولو كنتُ فيهم لدافعتُ عنه طلبا للحق، لا مرضاةً للناس كما ذهب الحزب. لقد أسلموه. وقد أسلموه إلى مجتمع منافق يسعى "بالسكاكين" إلى "العِجل" الذى يقع. وكلنا – لو تأملتَ – يقع. بشكل أو بآخر يقع. وما أكثر "السكاكين" التى ستوجه لنا! وهى عين "السكاكين" التى وُجهت للبلكيمى، والتى ربما ساهمتَ فى حملها، يا أيها القارىء المخاتل! يا شبيهَ البلكيمى (وشبيهى)! يا أخاه! يا أخى!
 
Posted by Muhammad | Permalink | 1 comments