Tuesday, February 05, 2013,03:01
فى الثلاثين .. أسئلة ومشاريع - الحادية عشرة
من أكثر الأشياء بعثا على الأسى فى هذه الحياة موقفُ الأمهات اللائى يستشعرن قربَ رحيل قطار الزواج عن محطات البنات. يبدأ القلبُ فى "الأكلان"، ويبدأ النومُ فى الاستعصاء حين يوضع الخدُّ على باطن الكف فوق الوسادة، ويبدأن فى حيلهن الأمومية الطيبة، التى قد تبلغ حدّ اجتراحِ الكبرياء. وكلما أخفق تدبيرٌ، ازداد انفراشُ ظلِّ اليأس على جدار القلب، حتى يمر القطارُ مطلقا صفيرَه الساخر، وقرقعتَه التى تعربد فى جنباتِ الروح، فيكون هذا الانفطارُ الجليلُ الذى يشبه عجزَ الصوفى المستسلم. فى مثل هذه الأشياء، تتجلى تراجيديا الوجود الإنسانى فى كامل عظمتها.

المطرُ بكاءُ السماءِ لعذاباتِ أهلِ الأرض. وفى "معرض الحيوانات الزجاجية" لتينيسى ويليامز، نستشعر هذا الأسى تجاه "أماندا" التى تحتال لتدبير زوجٍ لـ "لورا" العرجاء. ونراها – فى المشهد الأخير – وقد تسربلتْ بتلك التراجيديا النبيلة، بينما تخاطبُ صغيرتَها الهشةَ بما تحسبه سيبعثُ المواساة.

لا يجدى التمردُ فى مواجهةِ هذه الحياة، بل التصوفُ الخانعُ المنبنى على إدراكِ العجز. و "حين فقدنا الرضا .. بما يريد القضا .. لم تنزل الأمطار .. لم تورق الأشجار .. لم تلمع الأثمار". الرضا هو القفلُ والمفتاح. هو المعضلةُ والحل. وأمرُ المؤمن كلُّه خير؛ إن أصابته ضراء صبر، وإن أصابته سراء شكر. تلك الانفعالية للقدر الذى يجرى على الرقاب، وكأننى أقصد إلى شىء من قبيل ما أشار إليه نيتشه بـ "حب المصير".

تلوّيتُ اليوم ألمًا إذ باغتتنى نوبةٌ مفاجئةٌ من نوبات ألمِ الأسنان. دُرتُ – فى الفراش – حول نفسى، وكدتُ أقفُ على أعلى أجزاءِ الرأس. فى المرض يبدو عجزُ الإنسان المثيرُ للشفقةِ العظيمة. وفى المستشفيات تراه وقد انخلع من كاملِ غطرستِه وأبهتِه، فتدركُ حقيقةَ هذا الجنسِ الذى غره ما اكتشف، حتى أضفى على ذاته من مخايلِ العظمةِ ما لا يستحق. وخُلقَ الإنسانُ ضعيفا.

حذرنى الطبيبُ من الألم الذى سيعاودنى هذا المساء. أستبقُهُ بالمسكنات، وأنتظر حلولَه ضيفا ثقيلَ القدم. تنينًا خرافيا يعضنى من خدى الأيمن، حتى أعاودَ الدورانَ حول الرأس، آتيا كل ما لا أعرف من الألعاب البهلوانية. وأستبقُهُ بالكتابة؛ إذ سأكون من أكثر الناس عزوفا عنها، حين يطل برأسه الأفعوانىِّ الغريب. هلّا تمهلَ حتى أعد حقيبتى: فرشاةَ أسنانى، وصابونى، وماكِنةَ الحلاقة، والكولونيا، والثياب؛ فقد اقترب موعدُ رحلتى (غيرِ المرغوبة) إلى الصحراء.

واحدٌ من أجمل ما قرأتُ من تعاريف التصوف. قال: هو الصبرُ على الأمر والنهى. عشتُ أعواما طويلةً يراوغنى مفهومُ التصوفِ كما تبدى لى، حتى وجدتُ ضالتى (أو أقربَ ما يكون إليها) فى هذا التعريف. الصبرُ على الأمر والنهى. يالها من منزلة! ويالها من مكابدةٍ ومجاهدة!

إليكم واحدًا من الأسرار التى لم أبحْ بها من قبل: فى هذا العالمِ العاجِّ بمختلفِ أنواعِ الشرور، أَعجبُ كيف – إلى الآن – لم تُصبْنى تلك "التجربة" الغاصّةُ بالألم .. الألمِ الحسىِّ على وجهِ التحديد. فى العالم أناسٌ يجوعون، وأناسٌ يُعذبون، وأناسٌ يُسحَلون، وأناسٌ يُقتَلون .. إلى آخر ما نعرفه (وما لا نعرفه) من بشاعات. كيف لا يراودنا هاجسُ امتدادِ أذرعِ هذه التجاربِ (وهى كثيرة كالأخطبوط) إلينا. يقول بريخت: صحيحٌ أنى ما زلتُ أكسبُ راتبى، ولكن صدِّقونى، ليس هذا إلا محض صدفة؛ إذ لا شىء مما أعمله يبررُ أن آكلَ حتى أشبع. صدفةٌ أنى ما زلتُ حيّا (إن ساء حظى فسوف أضيع).

تمنيتُ – فى قليلٍ من الأحيان – لو تأتى هذه "التجربة"؛ حتى أفرغَ من سداد الضريبة. لكننى أدعو اللهَ – فى أغلبِ الأحيان – ألا يدخلنى فى "التجربة"؛ إذ لا يعرف الواحدُ منا هل تصمد هذه الصلابةُ التى ندّعيها فى أيام الرخاء!

وكان يُؤتى بالرجل فيمن قبلنا، فـيُحفرُ له، ثم يؤتى بالمنشار فـيُجعلُ على رأسه فـيُجعلُ فرقتين، أو يُمشطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دون عظمِهِ من لحمٍ وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه.

من أجل احتمالِ هذه المجابهة، كانت ضرورةُ عقدِ "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم بأن لهم الجنة"، وما دام المؤمنُ قد باع، فليضعِ اللهُ هذه النفسَ فى قصر، أو فليضعْها – قال القائلُ – فى قبر. لكيلا تأسَوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم.

ليس من عادتنا أن نبوحَ بمثل هذه الهواجس، التى نبقيها أسرى غرفِنا المغلقة، والتى يشيرُ إليها التعبيرُ الإنجليزىُّ الشهير: skeleton in the cupboard (أو in the closet)، لكنْ لا ضير – فيما أحسب – من قليلٍ من البوحِ والمكاشفة، خصوصا وأنا متعبٌ هذا المساء.

كنتُ وأختى – التى رحلتْ باكرا – فى شرفةِ الدار. نظرتْ عبيرُ – وكانتْ طفلةً – إلى السماء، وأشارتْ للسحب. قالت: هذا ربُّنا. قلت – وكنتُ طفلا – : لا، ربُّنا فى السماء.
 
Posted by Muhammad | Permalink |


0 Comments:


Post a Comment

~ back home