Monday, October 29, 2012,15:57
فى الثلاثين .. أسئلة ومشاريع - الرابعة
كلُّ محاولة للقبض – لغويا – على زمام الفكرة، بل كل محاولة للقبض – عقليا – على زمام الفكرة تشويهٌ للفكرة*. وانتباه الفكر لحركته ومحاولةُ وعيها (وهو مدار الفلسفة) حدٌّ لهذه الحركة ولحريتها. الفكر الحر هو ما يكون على غير انتباه، ولا يبدأ الانفصال إلى ذات ناظرة وذات منظور إليها إلا بحدوث الوعى. ولذلك فكلما ازدادت مراحل المعالجة، ازداد بُعد الناتج عن الأصل؛ فالفكرة بعد وعى الفكر لها غيرُ الفكرة قبل وعيه لها. والفكرة فى محاولة نقلها للغير غيرُ الفكرة الأصل، وما يصل الغيرَ ليس سوى الفكرة وقد اعتراها التشويه. ويشبه التدخلُ الواعى للفكر لوعى الفكرة تدخلَ أداةِ القياسِ المستخدمة فى تعيين موضع الإلكترون فى مداره حول النواة عند لحظة معينة، فطاقة الأداة المستخدمة – الفوتون مثالا – ستتسبب – حتما – فى دفع الجسيم عند الاصطدام به، وبالتالى إلى تغيير موضعه. ما أفضى إلى مبدأ عدم اليقين الذى قال به الألمانى هايزنبرج.

التواصل الكامل من ضروب المستحيل، ويلزم لحدوثه أن يكونك الغيرُ على نحو التطابق، بكل ما للكلمة من معنى. وكل ما عدا ذلك ليس سوى محاولات للوصول إلى أكثر التصورات قربا للتصور الأصل الذى ضاع – بالضرورة – بمجرد القصد إلى نقله، وقبل ذلك بمجرد القصد إلى وعيه.

بل يلزم لحدوثه أن يكونك الغيرُ على نحو التطابق لحظةَ سيلان الفكرة الحرة تلقائيا على وجه التحديد، فالفكر ذو طبيعة دينامية تمنع دوامَ ثبوته، وهو متغير من لحظة إلى لحظة، رغم ما فى هذا التقسيم إلى لحظات من عسف، فالأصح أنه ديمومةٌ من تغير متصل، ولذلك فلا سبيل أمام الفكر ذاته إلى إعادة تصور ما سبق له تصورُه على وجه التطابق، وقديما قال هيرقليطس: أنت لا تنزل النهرَ مرتين.

وأكثر من ذلك استحالةً (رغم ما تعنيه مقارنة مستحيلين من عبث) محاولةُ نقل الشعور، والشعور يهجم على النفس هجوما فتعرفه دون نظر. وليس الشعور مما يمكن للُّغةِ احتواؤُه، فقولك "أنا حزين" لا يعنى شيئا على الإطلاق فى تحديد ماهية حزنك، ومهما بالغت فى محاولة القبض على ماهية الحزن باللغة – كقولك "كأن يدا تعصر قلبى عصرا" – فإنه يظل مراوغا ومستعصيا على كل تحديد؛ إذ لا تعدو كل هذه المحاولات أن تكون تنبيها للغير إلى استدعاء تصورِ شعورٍ بعينه ذى صفة بعينها من مخزون تصوراته المنبنية على تجاربه الشعورية السابقة، ومحالٌ أن تحوى كلماتُك أى تنبيه أو حث على الاستدعاء، أو – حتى – أى معنى، لشخص لم يسبق له الشعورُ بالحزن. وأحسب أن هذه هى فكرة المعادل الموضوعى عند إليوت من حيث كونها سعيا لخلق معادل موضوعى يهيىء للغير تصورَ الشعور المراد نقله. أما أن هذا التصور مقاربٌ أو مطابق، فلا سبيل إلى معرفة ذلك، لأن الحكم يتطلب معرفةً مطابقةً لشعور الناقل، ومعرفةً مطابقةً لتصور المنقول له لشعور الناقل، وهذا محال.

* أعنى بالقبض – لغةً – القصدَ إلى صوغها شفاهةً أو كتابةً، إذ القبض – عقلًا – ليس – فى النهاية – سوى قبضٍ لغوى؛ فليس يُتصور – لا أتصوره أنا على الأقل – الفكرُ غيرَ محمول على لغة.
 
Posted by Muhammad | Permalink |


1 Comments:


Post a Comment

~ back home