Tuesday, December 17, 2013,07:42
مارمولكـ
مؤخرا، شاهدتُ فيلما إيرانيا عنوانه "مارمولكـ" (The Lizard)، وغنىّ عن القول إننى أحب السينما الإيرانية. لكنّ اللافتَ فى هذا الفيلم، وهو مُحفِّزُ الكتابةِ بالأساس، تماهيه ورسالتَه!

يدور الفيلم حول سجينٍ هاربٍ ينتحل شخصية مُلا/عالم دين وما يضعه ذلك فيه من مواقف طريفة ومضحكة؛ ليوجه رسالةً – فى الأخير – إلى الملالى أن ترفقوا بالناس؛ فبينما تحاولون حشرهم حشرا فى ملكوت السماء، فإنهم قد يسقطون من الجهة المقابلة!

يتطلب الموقفُ الجمالىّ أن نلتقىَ العملَ الفنىّ على أرضه الخاصة ونخضعَ لشرائطه ومحدداته، أن نتنازلَ – مؤقتا – عن قناعاتنا؛ لنحكمَ إلى أى مدىً قد نجح فى التماهى وإطارَه الذى وضعه مبدعه/مبدعوه؛ ولذلك يظل بإمكان المؤمنِ – مثلا – أن يروقه – جماليا – عملٌ يصب فى خانةِ الإلحاد، والعكس بالعكس! يعنى ذلك – بإيجاز – أن محاكمةَ العمل على أساسٍ من قناعاتنا الخاصةِ ومعتقداتنا هى شىء خارجٌ عن طبيعةِ التجربةِ الجمالية؛ ولذلك فإن نقاشَ ما نحسبه رسالةَ هذا الفيلم هو مما لا يتعلقُ بما أود طرحَه فى هذا السياق.

كان "الخواجة عبد القادر" هو آخر الأعمال الدرامية المصرية التى تابعتها بشغف وتقدير فى آن شكرت لهما كاتبه ومخرجه وأبطاله، وعلى رأس هؤلاء الأخيرين يأتى "يحيى الفخرانى" بطبيعة الحال. لكنّ ما يعنينا فى هذا السياقِ هو ما أعتبره السقطةَ الكبرى للحلقات، ولعله من المؤسف أن يكون التناول الأول لهذا العمل الذى أحبه هو تناول السلب لا الإيجاب.

دار "الخواجة عبد القادر" فى إطارٍ صوفىٍّ يهدف بالأساس إلى التكريس للمحبة: محبةِ الله التى ربما بدأ ظهورُها فى تراث المتصوفة على هذا النحو مع رابعة العدوية، ومحبة الخلائق. دار فى إطارٍ صوفىٍّ يهدف بالأساس إلى التكريس للمحبة وبقائها رغم كل محاولات الوأد، فى رسالة واضحةٍ إلى ما ارتآه المؤلفُ – واسمحوا لى الآن أن أنتقل إلى السياق التاريخىّ للعمل – تهديداتٍ سلفيةً لأضرحة الأولياء؛ إن الحب كامنٌ فى القلوب، لا فى الأضرحة!

جاءت الحلقات كرسالة حب، لكنّها عجزت عن احتواء المخالف الفكرىّ (وهو المَعنىّ بالأساس بهذه الرسالة) على النحو الملائم .. النحو الذى يدعو إليه العملُ ذاتُه!

ميراث تصوير المتدين عموما والسلفىّ خصوصا على الشاشتين الصغيرة والكبيرة مكرور ومحفوظ لدرجة الإملال والتنميط والقولبة؛ إنه المتعصب العنيف ضيق الأفق المنافق فى أحيان والمغرر به فى أحيان، تنضح بذلك أعمال كُتّابٍ من أمثال "وحيد حامد" وممثلين من أمثال "عادل إمام"، ووحدهم رجال المؤسسة الرسمية/الأزهر من يظهرون على الشاشتين بصورة مغايرة؛ إنهم نقيض كل ما سبق، وذلك فى إتمامٍ لبنودِ العقدِ المُبرَمِ بين السلطة من ناحية والمثقف الذى يهادنها ويعيش – فى الأخير – فى كنفها من الناحية الثانية، مهما تظاهر بضد ذلك! واتباعا لهذا الموروث، وإن لم يكن بفجاجة شخوص "وحيد حامد"، ظهر السلفىّ/المخالفُ الفكرىّ فى "الخواجة عبد القادر"؛ فكان متعصبا وعنيفا ومستغلا (بفتح الغين) ومغررا به!

إن العمل الذى يدعونا إلى الحب لم يُفلح بالأساس فى حب المخالف؛ تماهيا ورسالتَه! لقد ارتأى الحلاج المصلوب أن الذين يشهدون عليه بالكفر أحب إليه وإلى الله من الذين يشهدون له بالولاية. ولما سأله إبراهيم بن فاتك – كما ترد بذلك الرواية –: "يا شيخ، ولِمَ ذلك؟" أجاب الحسين بن منصور: "لأن الذين يشهدون لى بالولاية من حسن ظنهم بى، والذين يشهدون علىّ بالكفر تعصّبا لدينهم. ومن تعصّب لدينه أحب إلى الله ممّن أحسن الظن بأحد". هذه رؤيةُ واحدٍ من أساطين التصوف الفلسفىّ على مر العصور!

فى هذه النقطة على وجه التحديد، نجح الفيلم الإيرانىّ فيما أخفقت فيه حلقات "عبد الرحيم كمال"، فلم يعمد عمدا إلى تشويه الملالى/المخالف الفكرىّ، بل شملهم برسالته الداعية إلى التسامح، فكان فى هذه الجزئية بالذات أكثرَ إقناعا واتساقا ورسالتَه.
 
Posted by Muhammad | Permalink |
Wednesday, December 04, 2013,23:08
بلا عنوان
مساهمةُ مختلف أجهزة الدولة فيما كان فى الثلاثين من يونيو يعكس تغيرا جذريا حال مقارنته بما كانت عليه الحال فى الخامس والعشرين من يناير؛ فبينما رفعت جماهير يناير شعار إسقاط النظام، قامت جماهير يونيو – مدعومة برجالات ومؤسسات النظام نفسه – لإسقاط الرئاسة، ولستُ أحسب إن هذه النقطة موضع خلاف، كوننا نتفق – فيما أحسب – على واقعة عدم مساس حكم الإخوان بأركان نظام مبارك وعساكره مساسا ثوريا يطيح بها من الأساس! بعبارة مقتضبة: ما كان فى الثلاثين من يونيو لم يكن موجها ضد "النظام"، وإنما ضد الرئاسة التى اتضح أنها تقف وحدها بمعزل عن باقى أجهزة الدولة التى ساهمت فى وقوعها!

الخلاف بيننا حول ما كان فى الثلاثين من يونيو كبير، فبينما يراه بعض الثوريين حراكا استغلته الدولة القديمة وعساكرها للعودة إلى قيادة المشهد من صدارته فى فجاجة؛ وذلك اعتمادا على التراتب الزمنىّ للأحداث التى يقع فيها الثلاثون من يونيو سابقا للثالث من يوليو، أقول بينما يرونه كذلك، أرى أن الثالث من يوليو كان أسبق منطقيا – وإن تأخر زمنيا – من الثلاثين من يونيو. لقد رُتب الأمر وبُيت وأُحكم تدبيره، ولم يكن على المنقلبين سوى الذريعة التى يتصدرون بها للعلن .. تلك الذريعة التى نجحوا فى توفيرها فى مشهد يونيو، وأوراق "تمرد" التى سبقته. إن الأمر أشبه ما يكون بما درسناه فى حصص التاريخ عن الأسباب الظاهرية فى مقابل الأسباب الحقيقية للغزو الخارجىّ الذى يحاول – دون جدوى – أن يتجمل.

تأسيسا على هذه الرؤية التى تجعل الأسبقية المنطقية للثالث من يوليو يظل الرئيسُ المنتخبُ هو الحاكمَ الشرعى للبلاد، مهما أثار لفظ "الشرعية" من أحاديث السخرية والتندر. يُضاف إلى ذلك أن الإطاحة المباشرة بالرئيس قد جاءت على أيدى العسكر، وليس كنتيجة لضغوطات المنتفضين المعتصمين – لمدد تتراوح طولا وقصرا – فى الميادين. الشىء الذى لم يكن حتى فى الحالة المباركية التى انتهت بنائبه – لا قائد عسكره – يتلو بيانَ تنحيه! لقد كنت على استعداد لقبول كل ما حدث – رغم كل التحفظات – لو أجبرتِ الجماهيرُ الغاضبةُ الرئيسَ المنتخب على التنحى بصمودها واستمرار الضغط، وليس بتدخل دبابات العسكر التى وصل من خلالها التيار المدنى – ظاهريا – إلى مقعد السلطة، فقد كنت – شأن الآخرين – أحبذ اقتراح الانتخابات الرئاسية المبكرة.

هل أخطأ الإخوان؟ إن مجرد طرح هذا السؤال لا يخلو من سذاجة؛ كونه موضع اتفاق الجميع، حتى بين قطاعات كبيرة من الإخوان أنفسهم، لكننى – فى الوقت عينه – لا أجد حرجا من القول إن شيئا واحدا مما اقترفوه لم يتنزه عنه خصومُهم السياسيون الذين كانوا – منذ البدء – أكثرَ ارتماء فى أحضان العسكر، غير إن العين الكليلة المنحازة لا تستطيع الرؤية إلا فى اتجاه واحد!

هل أخطأ ثوار الثلاثين من يونيو الذين أعمتهم الخصومة السياسية عن رؤية أىٍّ مما عداها مما قد يسفر عنه الحراك من مآلات؟ إنهم – كمأخذهم على الإخوان – يكابرون فى الاعتراف بذلك، لكنْ يبدو واضحا فى الأفق أن النار التى امتدت – بمباركتهم – لتحرق الإخوان قد بدأت فى المساس بهم، وأن شهر العسل بينهم وبين أعداء أول أمس، أصدقاء الأمس – الداخلية وقيادات العسكر – قد قارب على الانتهاء!

لقد حدثت فى الأشهر الأخيرة أشياء كانت كافية لإقلاق الضمير الوطنىّ لأية أمة، أشياء لم يأتها – من قبل – أىّ من الحكام المحليين الذين عاصرتهم، لكنّ ذلك مما لم يعد يُراهن عليه فى الحالة المصرية التى أوشكت أن تمسى بلا ضمير. ومهما كان تعاطفنا مع الذين تضنيهم متطلبات الحياة (ولستُ سليلَ أحد الأسر الحاكمة لئلا تقلقنى – كما تقلقهم – متطلباتُ الحياة) إلا أن قَصر الحياة على اليومىّ الذى ينتهى إلى مواسير الصرف سيجعلنا مجرد بهائم فى الأخير. الشىء الذى نقترب منه حثيثا!

من أجل ذلك راج الشعار البديل لشعار يناير، فقد استحالت "عيش حرية عدالة اجتماعية" إلى "الحرب على الإرهاب"، وهو ما يبدو مُرضيا لكل أحد: للسلطة التى تريد تصفية مصادر القلق من ناحية، وخلق وهم وجود عدوّ قومىّ يعلو صوت الحرب عليه أبدا؛ ليكمم كل صوتٍ يتساءل عن حجم المُنجز فى غيره من الملفات من ناحية ثانية، وللخصوم السياسيين الذين يودون التخلص من الخصم ولو جاء ذلك بإخراجه من ساحة الحياة لا السياسة فحسب، وللشعب الذى يخدر ضميره بالتستر وراء هذه المنصة المريحة. "إنهم إرهابيون، فلا تنشغل!"

لقد عشتُ حتى رأيت العالم مقلوبا رأسا على عقب، يمتلىء بأبناء الزنا الذين يعيشون على موائد السلطة وينامون فى مخادعها، وليس من فارقٍ فى ذلك بين رجل الأعمال الرأسمالىّ، والشيخ المعمم، والإعلامىّ المأجور، والكاتب الذى تفضح كتابتُه عن الحريةِ خسةَ واقعِه ونفاقَ شخصِه. هؤلاء بالذات – الكتبة الكذبة – أزدريهم كما لا أزدرى أحدا، وأبصق فى وجوههم، وأتغوط عليهم .. حثالات يعيشون نعالا عسكرية، وحثالات يكونون فى الموت.

ولا أعتذر عن لغتى!
 
Posted by Muhammad | Permalink |