Saturday, July 07, 2012,00:20
عن إمكانية الفرح - نفيًا

قرأت – مؤخرا – عملين مؤسيين بطعم الماضى والذاكرة: الأشباح (Ghosts) للمسرحى النرويجى هنريك إبسن، ومعرض الحيوانات الزجاجية (The Glass Menagerie) للأمريكى تينيسى ويليامز.

استطراد لابد منه: أعتمد – كثيرا – فى تحديد قراءاتى على الحدس، (وأحيانا على ترشيح من أثق فى طبيعة تكوينهم الثقافى)؛ إيمانا منى بأن العمر لا يتسع لكل ما يود المرء لو استوعبه. يقول عبد الصبور فى معرض حديثه عن الحياة التى تعطى أملا واسعا وقدرة محدودة: "وهل ... قرأنا كل ما كنا نريد أن نقرأ من كتب". كما أن تلك الحكمة السقراطية القديمة المنحوتة على معبد دلفى دائمةُ التردد فى أذنى: "اعرف نفسك". أقرأ – فى الغالب – لأفهم ذاتى والوجود.

لما كان ذلك كذلك، لم يخطر لى – قط – أن أعرّج على إبسن ذى الثيمات الاجتماعية (كما هو مشهور عنه)، حتى كان أن أضاءت لى دراسات الدكتور: عوض الكيلانى فى أعمال إبسن ما لم أعرف – قبلُ – بوجوده فى مسرح الرجل، وأخص – هنا – واحدةً من ثيماتى الأثيرة فى الأدب والفن: الماضى الذى يعود – تلك الثيمة البارزة (على اختلاف تجلياتها) فى أعمال هنريك، إلى الحد الذى أستشعر معه ما ينطوى عليه قولُ المسرحى الألمانى بريخت: "أصبحت أشباح إبسن 'موضة قديمة' منذ اكتشاف السالفارسان كعلاج للزهرى" – أستشعر ما ينطوى عليه هذا القول من ظلم لمسرح الأول. بـدأ ذلـك – قبـل سنـوات – ببيـت الدميـة (A Doll's House)، ليتـأكـد – الآن – مع الأشباح.

يقول البلاغيون إن التناقض يبرز المعنى ويوضحه، وأضيف: لكن المتناقضَين – رغم ذلك – يقودان إلى نفس المأساة، فبينما تحاول بطلة أشباح إبسن دفنَ الماضى والفرارَ التامَ منه أملا فى إشراق المستقبل ذى الطبيعة المغايرة، نرى بطلة ويليامز وقد تعلقت بأهداب الماضى المجيد فرارا من حاضر كئيب ومستقبل لا تُطمئن إشاراتُه، وفى الحالتين تنتهى الدراما بحزن أفعوانى يعصر القلب ولا يعتقه، محققتين – فى الجمهور – الأثرَ المشار إليه عند أرسطو: الخوف والشفقة.

يظهر الماضى عند إبسن كقوةِ تدمير .. كجثةٍ تدفنها فى حديقة دارك ظانّا انقضاءَها إلى الأبد، لكنها ما تلبث أن تورق أشجارا أخطبوطية تطاردك وتطالبك بتسديد الحسابات القديمة .. أشجارا لا تطل برأسها إلا فى أكثر لحظاتك اطمئنانا إلى زوالها بلا عودة .. تماما حين توشك أن تلمس قمةَ جبلِ الأمن. تطل فتورق فتدهمك فتسقط من علٍ مكسور الرقبة والرأس.

تفعل السيدة هيلينا ألفينج كل ما فى الوسع لإخفاء حقيقة زوجها الخليع، وتحيط العائلةَ بشبكة من الأكاذيب حفاظا على الصورة البراقة أمام المجتمع (ذاك المنافق)، إلى الحد الذى تضَحّى معه – كأم – بالقرب المكانى (وبالتالى، بالإشباع العاطفى) حين ترسل ابنها الوحيد إلى باريس إنقاذا له من مناخ البيت الفاسد. يموت الزوج، وتمر سنوات وسنوات وسنوات، ويعود الغائب، فتحسب هيلينا أن الفرح وشيك. تقول: "بعد غد، سأشعر كأن زوجى الميت لم يعش قط فى هذا البيت. لن يكون فى هذا البيت سوى صغيرى وأمه". وفى تلك اللحظة – فى تلك اللحظة دون غيرها – يطل الماضى/الشبح.

تتأكد المأساة، فيرث الابنُ (المُبعد) عن أبيه مرضَه التناسلى، ليعود ماضى الوالد إلى مطاردة الولد، مسدلا الستار عن إمكانية الفرح، وسط ضراعات أوزوالد المعتوه (بتأثير المرض) لأمه أن تمنحه الشمس. "الشمس – الشمس".

يظهر الماضى عند إبسن كقوةِ تدمير، لكنه يظهر كذلك كقوةِ كشف، فبالتنقيب فى أخطاء الماضى يمكن تتبعُ مرارات الحاضر فى أصولها، فتكون المكاشفة وتكون المصارحة ويكون الفهم. وفى المجمل، للماضى ديون لا يجدى معها الفرار، بل الوقوف والمجابهة والتسوية .. هذه رسالة إبسن.

وفى المقابل تقف أماندا – فى مسرحية ويليامز – بحاضرها الرث، بعد ماض من الفرحة التى عرفتها فى الجنوب الأمريكى، والذى تضفى عليه النوستالجا مزيدا من الحميمية والألق.

تدفع قتامةُ الواقع مختلفَ الشخوص إلى تبنى استراتيجيات هروبية مختلفة الشكل واحدة المضمون: تتعلق الأم بما كان، تتعلق الابنة – لورا – بحيواناتها الزجاجية الهشة، ويتعلق توم – الابن – برغبة فى المغامرة (كأبيه)، ناهيك عن تحققه البديل فى الشعر.

نستشعر الفشلَ المحتومَ منذ بدء العمل، إذ يجابهنا – أول ما يجابهنا – توم فى زى البحارة بعد هروبه من البيت والواقع (القديم) كليهما، لتأتى فصول المسرحية فى هيئة تذكراته للأحداث. لكن هل يصبح توم أفضل حالا بعد هذا الهروب الكبير؟ تأتى الإجابة فى الإيبيلوج (وهو لاحق زمنيا لأحداث المسرحية)، وثانية يعود الماضى ليطارد توم متجليا كندم ووحدة، بعد هجرانه لأخته العرجاء، وسقوطه كورقة عن الغصن.

تسعى أماندا إلى تدبير زوج لـ لورا العرجاء [ما كانت أماندا لتسمح بالإشارة إلى ابنتها بمثل هذه اللفظة]، غير أن المحاولة تنتهى – رغم النفقات والتلاطف – إلى إخفاقٍ تامٍ يعزز الكسرَ الذى فى روح لورا، ويكرس لانسحابها إلى عالمها الخاص. جيم هو الشخص الذى لن يصبح زوجا لـ لورا، وإمعانا فى تأكيد فكرته القاتمة، يشير ويليامز إلى مقومات جيم حين كان طالبا فى المدرسة الثانوية .. كان شخصا تتوقع تماما أن ينتهى به الطريق إلى البيت الأبيض. لننتقلِ – الآن – فجأةً – إلى الواقع: جيم موظف فى مصنع للأحذية. أيها القارىء: هل تستشعر رغبة عارمة فى البكاء؟

تنتهى المسرحية بإيبيلوج توم، وفى الخلفية أداء صامت لـ أماندا وهى تتحدث إلى ابنتها بطريقة توحى بالمواساة. يقول ويليامز فى توجيهاته المسرحية: "الآن حيث لا يمكننا الاستماع إلى حديث الأم لن نستشعر سخافتها، بل سنرى نبلها وجمالها التراجيدى". وفى التحليل الأخير، تظهر الذاكرة (الماضى) كقوة تحول بين شخوص ويليامز وإمكانية تحقق السعادة فى الحاضر أو المستقبل.

جديـر بالإشـارة أن الستـار يُسدل فى العملين على منظرين متشابهين: الأم محطمة الآمـال، والولد (أو الابنة) المنفصل عن الواقع.

أحتذى – الآن – خطى تينيسى ويليامز (المحتذى – بدوره – لخطى بيسكاتور وبريخت) فأتحدث إليك مباشرة أيها القارىء إغرابًا لك وكسرًا لإيهام النص. أريدك أن تفكر فى كل ما سبق، وأن تعتبر وضعياتِ مختلفِ شخوص إبسن وويليامز. أريدك – بالأساس – أن تبكى: لا بكاء رومانسيا، بل وجوديا يتأسس على رؤيتك للحالة الإنسانية. وهو بكـاء لا يعبّـر عن التشـاؤم قـدر ما يعبّـر عن الإدراك .. الإدراك الذى يستحيل البكاءُ معه صنوَ الضحك، أو لو شئت الدقة فقل: الإدراك الذى يستحيل البكاءُ معه "نفس" الضحك، إذ ما فى جبة هذا – فى التحليل الأخير – سوى ذاك.

 
Posted by Muhammad | Permalink |


1 Comments:


Post a Comment

~ back home