Sunday, February 03, 2013,01:57
فى الثلاثين .. أسئلة ومشاريع - العاشرة
ستُحشر هذه السطور حشرا فى مساحة السياسى التى انقسمنا إزاءها إلى "نحن" و "هم"، خصوصا بعد السعى الحثيث إلى نسف كل جسر ممكن للتواصل، غير أنى أود لو قررت – منذ البدء – أن ما أعالجه – هنا – خاضع للمجال الأكثر رحابة: مجال الإنسانى، الذى نصبح معه أكثر قدرة على التفهم والتفتح والتعاطف. لذا، لو أصررتَ ألا تطّرحَ عنك معطفَ التعصب الحزبى/السياسى/الأيديولوجى، فأنصحك – أيها العابر – أن تتوقف عند هذا الحد، فما أنا بسبيل عرضه سيصيبك – فى أغلب الظن – بشىء كثير من الحنق والغضب، وستتمادى حد اتهام نقطة انطلاقى بالتحيز إلى فئة، رغم تقريرى المسبق – الذى سيذهب أدراج الرياح – عن رغبتى فى معالجة القضية تأسيسا على مقولة على الحجار/عبد الرحمن الأبنودى: "كل اللى عايشين م البشر من حقهم يقفوا ويكملوا .. يمشوا ويتكعبلوا"، وإن أعاق ذلك هذا المجتمعُ المنافق.

لم يكن ما صدمنى فى واقعة النائب البرلمانى السابق "أنور البلكيمى" هو كذبته، بل ردة الفعل المجتمعية التى قوبلت بها تلك الكذبة. ولْـأقررِ – ابتداء – أن جام النقمة قد انصب – بالأساس وفقط – على فعل الكذب ذاته، مستبعدا – بذلك – كل محاولات التجميل الرخيصة التى لجأ إليها البعض، من قبيل الدفاع عن المشتبهين الذين اعتقلتهم أجهزة الأمن للتحقيق فى الحادث المزعوم.

مداخلة ذات صلة: كان من رأى الفيلسوف الألمانى نيتشه أن كثيرا من الفلاسفة لم يكونوا على قدر الموضوعية الذى حاولوا إيهامنا به؛ بزعم التفلسف النزيه المفضى إلى النتيجة. كان من رأيه أنهم قد تبَنوا أفكارهم – ابتداء – ثم شرعوا – لاحقا – فى سوق التبريرات والمسوغات الفلسفية. يقول: كلهم يتظاهرون بأنهم توصلوا إلى آرائهم الحقيقية – واستقروا عليها – عبر منطق متزن خالص غير مكترث بتوافه الكون (وهذا على عكس المتصوفين فى كل حدب وصوب، والذين هم أكثر استقامة، رغم شطحاتهم، ويتحدثون عن "الإلهام")، بينما تكون آراء الفلاسفة فى حقيقتها صادرة عن افتراض ... عن حدس، بل عن نوع من "الإلهام" فى هذه الحالة أيضا. وفى معظم الأحيان رغبة من القلب تمت تنقيتها، وجُعلت مجردة. ثم يدافعون عن اقتناع استمدوه لاحقا، وبمبررات توصلوا إليها بأثر رجعى. إنهم كلهم دعاة يأبون على أنفسهم هذا النعت، بل إن معظمهم مراوغون يسعون إلى البرهنة على أفكارهم التى يتمسكون بها، ويعمِّدونها وكأنها "حقائق".

وهذا هو الحال – بتمامه – فى واقع السياسة المصرية الراهنة. تُتخذ المواقف، ثم تساق لها المبررات بأثر رجعىّ.

البلكيمى واحد من أبناء التيارات السلفية، أجرى جراحةَ تجميل. ولأن ذلك مما قد يثير الحفيظة فى هذا المناخ السلفى المحافظ، عمد إلى كذبته. إن ذلك مما يمكن تفهمه. والتفهم لا يقصد إلى التبرير، فنحن قد نتفهم ارتباطَ الجريمة بالمستوى المعيشى المتدنى، دون أن نضطر إلى تبرير الجريمة ذاتها.

تلك هى الواقعة التى تلقفها كل أحد، فبادر إلى إحناء ظهره، ملتقطا حجرا يقذف به المجدلية، على طريقة الفريسيين والبيوريتانيين، وكأن بكارة المجتمع وطهره ونقاوته قد دنسها البلكيمى بفعلته، رغم أن نفس هذا المجتمع غارقٌ فى الكذب صباح مساء، على مستوى أعضائه منفردين، وعلى المستوى الجمعى أيضا. بل لن تعدم أمثلة – لا حصر لها – من ممارسة الكذب – حتى – على الذات.

عرفتُ بشرا حثالات (ما داموا قد ارتضوا إصدارَ أحكامٍ قيمية) لو تتبعتَ روتينهم اليومىّ لم تجد فيه قيراطا من خير، يُجلسون أنفسهم على منصة القضاء ليحاكموا البلكيمى ... هكذا، بوقاحة متناهية. رأيتُهم وهم يرون القذى فى عينيه، بينما يعجزون عن رؤية الخشب الذى فى عيونهم، لو استعرنا التعبير الوارد فى العهد الجديد. ولو استعرنا تعبير "اللمبى"، فإن جُرم البلكيمى لا يكمن فى كذبته، بل فى انكشاف كذبته.

المجتمع يمثله "السيد أحمد عبد الجواد" (سى السيد) كما صوره محفوظ فى ثلاثيته. إنه الذى يبيح لنفسه كل شىء فى الخفاء حد التبذل، بينما يتخذ – فى العلانية – مظهرَ الرصانة من ناحية، ويحرّم على كل من سواه أن يأتى بمثل ما يأتى من ناحية ثانية. المجتمع لا تعنيه الفضيلة قدر ما يعنيه الحفاظُ على "مظهر" الفضيلة. افعل كل شىء دون أن تنكشف. تلك هى النقطة الجوهرية – وإن خالفنى كل أحد – فى المسألة.

أخطأ البلكيمى، لكنّ خطأه بشرىّ تماما؛ ولذا أتعاطف معه، دون اعتبار اتفاق الفكر – بينى وبينه – أو اختلافه؛ فإن ذلك خارج – بالكلية – عن طبيعة هذا النقاش. ولأن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، فقد أصابنى موقف "حزب النور" بفصل البلكيمى بالتقزز والاشمئزاز. صحيح أن موقف الحزب مما قد يُصوّب سياسيا، لكنه عارٍ من القيمة والخلق. ولو كنتُ فيهم لدافعتُ عنه طلبا للحق، لا مرضاةً للناس كما ذهب الحزب. لقد أسلموه. وقد أسلموه إلى مجتمع منافق يسعى "بالسكاكين" إلى "العِجل" الذى يقع. وكلنا – لو تأملتَ – يقع. بشكل أو بآخر يقع. وما أكثر "السكاكين" التى ستوجه لنا! وهى عين "السكاكين" التى وُجهت للبلكيمى، والتى ربما ساهمتَ فى حملها، يا أيها القارىء المخاتل! يا شبيهَ البلكيمى (وشبيهى)! يا أخاه! يا أخى!
 
Posted by Muhammad | Permalink |


1 Comments:


  • At Tuesday, November 25, 2014, Blogger امجاد

    السلام عليكم ، وعجبا لك !

    لما لم تدع هناك وسيله لمتابعة المدونه ؟! حتى نجد لها رابطا في متصفحنا ونعود لها متى اردنا ذلك !؟
    كما تعلم تابلت جوالات ومتصفحات اشكال والوان لم يعد حفظ المفضله كافي

    كتاباتك ممتازه ولغويه رائعه واسلوب سلسل

    مقال الضراعه ممتاز ويومياتك التي لا اذكر عنوانها ذكرت ( بذاءتنا الذكوريه طلبا للمرح ) فاحببت ان اذكّرك ان الله لايحب الفحش بالقول ولا التفحش !

     

Post a Comment

~ back home