Sunday, February 10, 2013,15:09
فى الثلاثين .. أسئلة ومشاريع - الثانية عشرة
كنتُ وأختى – التى رحلتْ باكرا – فى شرفةِ الدار. نظرتْ عبيرُ – وكانتْ طفلةً – إلى السماء، وأشارتْ للسحب. قالت: هذا ربُّنا. قلت – وكنتُ طفلا – : لا، ربُّنا فى السماء.

المطر بكاء السماء لعذابات أهل الأرض. ومن أكثر الأشياء بعثا على الأسى فى هذه الحياة كذباتنا الصغيرة التى نخفى بها حقائق الوقائع عن القلوب المرهفة. الأم العجوز التى مات ولدها فى الغربة. نخبرها أن تيار الحياة كان أقوى – فى اندفاعه – من أن يقاومه الولد، حتى شغله عن السؤال؛ تحتمل شيخوختُها ألمَ العقوق، لكنها لا تحتمل ألم الموت والمفارقة. المحب الذى يخبر حبيبته أن كل شىء سيكون على ما يرام، وهو يعلم أن شيئا لن يكون على ما يرام. الصغير الذى رحلت أمه دون أمل فى العودة من تلك التخوم التى لا يعود من خلفها أحد. نخبره أنها قد سافرت، وأنها – الآن – عند الله، فى ذلك المكان الذى تسكنه الحور العين .. حيث تتفجر الأنهار، وحيث الراحة فلا تعب. البنت التى غدر بها العريس فى آخر لحظة، والتى تصدق أكاذيبنا (أو تتظاهر بذلك)، مدفوعة بوخز الكبرياء والجرح. الفنان متوسط القيمة الذى نجامله فى أواخر أيامه؛ مخفين حقيقة العبث الذى أضاع فيه العمر سدى؛ الغروب بارد بما فيه الكفاية. المرضى الذين لا نخبرهم بحقيقة المرض، حتى ليستحيل السرطان مجرد آلام مَعِديّة، ستجدى معها الراحة (والأدوية)؛ طمأنينة النفس نعمة السنوات الأخيرة. المشاهير الذين انحسر عنهم كل ضوء بعد سنوات ملءِ السمع والبصر. اتصال مباغت يعيد بناء كل الأمل، واستعدادات – مبالغ فيها – للعودة إلى مركز الدائرة، ثم تظهر الأسباب الحقيقية للمكالمة، فينهار – فى لحظة – بناء البدن. تصنّع البسمات فى وجه الصغار؛ إزاحةً لموجات الحزن التى تدهمهم فى عذوبة طفولتهم التى لم تعرف التجريب، رغم الموجات التى نلاقيها – جوانيا – لنفس أسباب أحزانهم. وفتى ظن أن الحياة ستكون أكثر سخاء مما هى، فوقف – فى الخمسين (لو بلغها) – يقارن الحلم القديم بما آل إليه الواقع، فانذبح صدره، وأشعل لفافة تبغ، وكذب على الذات، وكتب.

المطر بكاء السماء لعذابات أهل الأرض. ومن أكثر الأشياء بعثا على الأسى فى هذه الحياة كذباتنا الصغيرة التى نخفى بها حقائق الوقائع عن القلوب المرهفة. وأكثر من ذلك بعثا على الأسى تظاهرهم بتصديق حقائقنا الزائفة، وامتنانهم لمحاولاتنا الطيبة.

كنتُ وأختى – التى رحلتْ باكرا – فى شرفةِ الدار. نظرتْ عبيرُ – وكانتْ طفلةً – إلى السماء، وأشارتْ للسحب. قالت: هذا ربُّنا. قلت – وكنتُ طفلا – : لا، ربُّنا فى السماء.
 
Posted by Muhammad | Permalink |


0 Comments:


Post a Comment

~ back home