Monday, April 16, 2007,00:38
الوفرة

شاهدت فيلما لسعاد حسني، ولم أكن - منذ كثير - قد شاهدت فيلما لسعاد حسني.

يتساءل اللامنتمي كيف أعيش الحياة. إلا أن إجابات البرجوازيين لا تعجبه، وطرقهم لا تروقه. يتساءل .. هل باستطاعته أن يحدق في الشمس، وهل باستطاعته - على الأخص - أن يحدق في الموت!

أنت هنا لمرة واحدة .. معلقٌ في الهواء كلاعب سيرك .. ومن تحتك يربض الوحش متربصا، وممسكا بطرفي الحبل .. قد يطل برأسه الآن أو غدا أو بعد غد .. كل الرماة يتركون الميدان من حولك .. تعلم أنك أيضا تاركه مهما طال مكوثك .. تعيش موتك في موتهم .. أنت ميت حي، أو حي ميت.

شاهدت فيلما لسعاد حسني، ولم أكن - منذ كثير - قد شاهدت فيلما لسعاد حسني.

أنت هنا لمرة واحدة .. معلقٌ في الهواء كلاعب سيرك .. تحاول القبض على زمام اللحظة .. تحاول الهصر وارتشاف العصير .. يطل برأسه فتسقط، وتنتهي اللعبة.

ألم أحدثكم - بعد - عن الوفرة؟!

يصف الفيلسوف الوجودي كيركجورد شخصية الـ "دون جوان" بأنه شيطان حسيّ لا منازع له على عرش الأخلاق الكمّية. فالرجلُ الذي يحب امرأة واحدة ولا يبدلها أو يحيد عنها، حتى إذا ماتت ظل وفيا لذكراها وحبها رجلٌ عرف الحب الرومانسيّ. أما الحب الحسيّ فهو الحب الذي يكثر فيه الرجل من التنقل والمغامرات، ولا يخلص فيه لامرأة واحدة، ولا يعترف بالوفاء. يغرر فاوست بامرأة واحدة بينما يلتهم الـ "دون جوان" 1003 امرأة وفتاة. لا يتخير نساءه وإنما يلتقطهن من بين العاديّات، والنتيجة تكرار المغامرة ومضاعفتها، فالجدة لا تستهويه لكن الذي يستهويه حقا هو التجربة. ذات التجربة من جديد كل مرة. ذات الأحاسيس. لا تعطيه التجربة (نوعا) متجددا، ولكن (كَمَّا) متجددا. يقتفي ألبير كامو أثر كيركجورد في تناول الـ "دون جوان" فينفي عنه الرومانسية، فهو ليس حزينا يائسا يبحث عن حب مثالي لا يجده. هو لا يريد أن يتحد مع الحبيبة. إنه يطلب التكرار، ففي التكرار تأكيد للنفس أنها تعيش، وتعيش الحياة في وفرة.

وإذا كان الـ "دون جوان" يمارس الوفرة بالفعل، فالممثل يمارسها بالرمز. يمارسها الأول حياة، ويمارسها الثاني تخيلا ومعايشة. وليس الممثل الذي يعيش الوفرة أيّ ممثل. إنه أعظم ممثل. إنه يحيى الفخراني، وسعاد حسني. يقول كامو: إن فنه - الممثل - هو أن يتلبس دوره إلى أقصى حد، وأن ينفذ ما أمكن نفاذا كاملا داخل حيوات ليست حياته. نفس الشيء الذي ينطبق على الغازي، والغازي عند كامو ليس هو القائد العسكري كجنكيز خان أو نابليون، إنه أقرب ما يكون إلى بروميثيوس. إنه الذي يهتم بالثورة وليس بالنتائج. وهكذا يجمع الثلاثة: "دون جوان" و "الممثل" و "الغازي" الامتلاء (الوفرة) والتكرار والإحساس بالفناء.

إلا أن الإحساس بالوفرة ليس مقصورا على تلك النماذج الكاموية، بل قد نجده عند لاعبي كرة قدم كرونالدينهو أو مطربين كفيروز. وقد يتحقق في أعمق صوره في الدين.

قد نتفق على الأداء المبهر لأحمد زكي من حيث كونه ممثلا، إلا أن الحديث عن سعاد حسني ويحيى الفخراني سيقودنا حتما لمناطق أخرى أكثر دهشة، وأكثر امتلاء بالحياة ووعيا بها .. فما دمت تعي موتك، فستستنزف اللحظة من أولها إلى آخرها، بطولها وعرضها وعمقها وارتفاعها، وهذا ما يفعله الإثنان تمثيلا، وتفعله فيروز غناءا، حين تحلق فوق هذا العالم السفليّ لتغوص فيه وتستشعره. وسواء حلّقت أو غصت، فالأمران يساعدان في توسيع الرؤية، خصوصا وأن التحليق هدفه الغوص .. الغوص الذي يجعلك تحتكُّ وتلامس وتستشعر الغبطة. وحين تشاهد رونالدينهو فإنك - أيضا - تستشعر الغبطة .. غبطة سيطرة الجسد الفرحان على الكرة في جذَل وكأنه وجد نوعا من الاقتراب في تلك الممارسة .. الاقتراب من قاع الحياة. إنك لا تستطيع مطَّ الحياة عرضيا، لكنك حتما تستطيع مطّها طوليا.

أَلاَ أَيُّهذا اللائِمي أحضرُ الوَغَـى
وَأَنْ أَشهدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِـدِي

فـإنْ كُنْتَ لاَ تَسْطِيْـعُ دَفْعَ مَنِيَّتِـي
فَدَعْنِـي أُبَادِرُهَا بِما مَلَكَتْ يَـدِي

وَلَـوْلاَ ثَلاثٌ هُنَّ مِنْ عيْشَةِ الفَتَـى
وَجَـدِّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُـوَّدِي

فَمِنْهُـنَّ سَبْقِـي العَاذِلاتِ بِشرْبَـةٍ
كُمَيْـتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالمَاءِ تُزْبِــدِ

وَكَرِّي إِذَا نَادَى المُضَافُ مُحَنّبــاً
كَسِيـدِ الغَضَـا نَبَّهْتَـهُ المُتَـورِّدِ

وتَقْصِيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ والدَّجْنُ مُعْجِبٌ
بِبَهْكَنَـةٍ تَحْـتَ الخِبَـاءِ المُعَمَّـدِ



تلزم الإشارة إلى كتاب "ألبير كامي - حياته. فنه. أدبه. فلسفته" لـ/ عبد المنعم الحفني، فقد اعتمدت عليه اعتمادا كبيرا في نقل آراء كامي.

 
Posted by Muhammad | Permalink |