استوقفني كثيرا ولا زال .. يقول النبي: والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى
يوقظني أخي ليتلو الخبر .. ابن الخال - حادث - طريق - دراجة بخارية - عناية مركزة - سفر .. ألملم دهشتي محاولا فهمه .. تتسع عيناي في محاولة يائسة لطرد النوم .. أدرك عبث المحاولة، فأستسلم للخَدَر،وأنام
أهاتفه صباحا للاطمئنان .. فيأتيني صوته جادا، وباترا:
- بتنا البارحة في دار جدك، وخلال ساعة نكون في المستشفى بمشيئة الله
- والحالة؟
- أخبرك عندما أعود
لم أكن أعلم أنه يمتلك دراجة بخارية .. وأنه تعرض لحادث .. وأنه يخضع - الآن - للتنفس الصناعي .. وأن فقراته العنقية لم تقو على تحمل الصدام .. وأن نخاعه الشوكي قد تأثر .. وأن التقرير المبدئي يشير إلى... لكنني أعلم الآن
ذهبت إلى بنها .. ولم أكن - من فترة - قد ذهبت إلى بنها
عانقت من عانقت .. وقبّلت من قبّلت .. وهاتفت من هاتفت .. لأنتهي - أخيرا - أمام زجاج غرفة العناية المركزة ... وفي مثل هذه اللحظات - تماما في مثل هذه اللحظات - تلعب الذاكرة لعبتها .. ويطل الماضي برأسه وجبروته
أعود - فلاشيا - إلى الثمانينات لأرى أباه الذي رحل - أيضا - في حادث دراجة بخارية على الطريق .. يروح وجهه لتخلو واجهة المشهد، ويبدأ التداعي .. أفيق على عيون أمي النديانة بالبكاء، ونظرات العائلة المثبتة - في شرود - على زجاج الغرفة، وجسده المستسلم
في الطريق إلى أختي، يملؤني الهواء المحمل برائحة زهر البرتقال، والذكرى، والموت .. تبدو مقابر العائلة عن بعد، فأتمتم لنفسي: ما أكثر الراحلين
ماض فينا حكمك .. عدل فينا قضاؤك
أسافر - ظهرا - إلى القاهرة .. تطالعني - عند مداخل العاصمة - لافتة عن السائقين الذين يؤيدون التعديلات الدستورية .. أسأل نفسي: هل يهتم السائقون - حقا - للتعديلات الدستورية! فأحمد الله أني لست قاهريا، وأني لست سائقا .. في التحرير، أجد صديقي السودانيّ منتظرا، فأعانقه .. تدهمني - كعادتها في هذا المكان - كعكة أمل الحجرية لأجد صديقي وقد بدأ التندر على أمواج الغزاة السائحين .. والمصريين
في مدبولي، لا أجد أيا من الروايات التي جئت لرؤيته، وشرائها .. نفذت واحة الغروب، ولا شيء عن تجارب زملائنا الشباب .. نتجه إلى ميريت - وقد أكد لي أنها تعمل حتى المساء - لنجدها مغلقة .. أحاول الاستفسار من عسكري الأمن هل جئنا متأخرين أم أنه يوم العطلة! فيخبرني أن أمر غدا .. أبتسم لطيبته، فيضحك صديقي سخرية من المصريين
سل عشرين قاهريا عن نفس المكان .. لتحصل على عشرين إجابة مختلفة .. وبعض الازدراء ... هكذا علّق صديقي بعد عدد لا بأس به من محاولات الوصول لميريت في شارع قصر النيل
أصطحبه - مشيا - إلى ديوان .. يصر على الإشارة إلى كل شيء، وكأنه مرشد سياحي لأجنبي لا يعرف عن القاهرة سوى اسمها .. ينتقد المصريين كثيرا، ويمشي قليلا، فأسخر - بالمثل - من كسل السودانيين ... اعتدنا - منذ التقينا في مطروح - على مثل هذه الأشياء ... أسأله - مداعبا - هل يبنون الخيام في السودان فوق بعضها، أم بجوار بعضها! فيجيبني - مغتاظا - أنني لن أكف عن وصف السودان بما ليس فيه .. يخبرني عن مباني الخرطوم، وأم درمان وأننا - المصريين - لم نترك الخيام إلا بعد أن تركها السودانيون بقرون .. يخبرني عن عاداتهم، وطباعهم .. يخبرني عن البشر الذين هم أساس التنمية ... حين أخبرني أول مرة عن المطرب السوداني مصطفى سيد أحمد، وأنه كان شيوعيا، تعجبت كثيرا .. لم نعرف في مصر مطربا بهذا التوجه .. لم نعرف مطربا مصريا ذا توجه من الأساس ... تتواصل حميمية النقد المتبادل طول الطريق .. نتحدث في أحوالنا الشخصية، وفى السياسة، والدين، والحب، والأدب، وأشياء أخرى حتى نصل الزمالك
كانت زيارتنا الأولى لديوان .. همست له: "الأسعار نار يا حبيبي نار" فأجاب: "ياللا نمشي بكرامتنا أحسن" .. لم أفلح في تخيل بهاء طاهر أو صنع الله إبراهيم أو أي من الروائيين الذين أعرفهم - لم أفلح في تخيل أحدهم يستعمل "الكريديت كارد" كبعض زبائن المكتبة .. ابتسمت للخاطر، وكدت أضحك حين نجحت في تخيل جمال الغيطاني، وقد اشترى كتابا بالكريديت كارد
توقف صديقي أمام سيديهات أم كلثوم التي يعشقها، بينما كنت أبحث - كمبيوتريا - عن الروايات
- شريعة القطة
- الكاتب؟
- طارق إمام
- غير موجودة
- الحكي فوق مكعبات الرخام
- غير موجودة
- أعرف
- نعم؟
- لا شيء .. أظنها لم تصدر بعد
- شيء آخر؟
- البلياتشو .. شيماء زاهر
- موجودة
عدت وصديقي - مشيا - إلى مترو التحرير .. كان الجو ممطرا، وكان يغني بطريقته الأفريقية:
ثم قمنا وافترقنا
كلنا يمشي وحيدا
باكيا طرفا وجفنا
خائفا ألا يعودا
اتفقنا أن يحصل لي على روايتَي نهى وطارق من ميريت، حتى نلتقي مرة أخرى .. تصافحنا، وافترقنا
بت ليلتي في المستشفى .. قضيتها - جوار ابن الخال - مع ابن خالتي، وأقرباء المرضى الآخرين، ورائحة العلاجات، والمحاليل، وبلياتشو شيماء زاهر
أفاق في الصباح فرآني وأشار لي .. لم أفهم إشارته .. ظننته يحاول إمساك يدي .. أمسكت يده فأفلتها بصعوبة .. أخذ يكتب في الهواء .. لم أفهم .. يئس مني فكف عن الإشارة .. عرفت من خالي - فيما بعد - أنه كان يريد الوضوء
غادرت عائدا .. وكنت في طريقي أفكر في ضعفه-ضعفي-ضعف الإنسان .. كنت أفكر في رحلتي القصيرة .. وهل عدت - حقا - كما سافرت .. أم أنك لا تنزل النهر مرتين!
تحديث: أقول فيك ما قال النبي: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون" .. رحمك الله يا ابن الخال