واحد من الوجوه التي مرت .. يومض كالفلاش كلما أدرت شريط الذاكرة .. تماما كما تومض كل الوجوه الراحلة - سفرا، وموتا، وغيابا في جلباب الزمن - وحضورا قويا في فعل التذكر .. لتبقى مساحة الحنين التي تقاوم التآكل المتسارع في آدميتنا .. والذي يُعرف - علميا - بظاهرة التصحر.
يطل عليّ من منفاه الإرادي بين الحين والآخر. يأتيني بصمته القلق، وإطراقة رأسه المتوتر .. وتأتيني - معه - كلماته التي ساهمت في تفتحي للعامية بعد أن لججت - كثيرا - في رفضها:
امسك دماغك اوي
كلبش في احلامك
وارسمها صورة للزمان
ان كان .. تكون
وان لم يكون .. ارسمها من تاني
ميهمنيش مين كان فاكرني ومين نساني
يهمني اني لو افتح صدري .. القاني
امسك دماغك اوي .. كلبش في احلامك
لم يخلُ الأمر من خدعة .. فبعد أن أمسكت برأسي، وحاولت - يائسا - أن أتشبث بأحلامي .. تماما بعد أن أمسكت برأسي، وحاولت التشبث بأحلامي .. تركني وغادر إلى الشمال.
كان يسبقني - في الطب - بدفعتين .. وفي الشعر بجيل أو اثنين: اطلاعا، وميلا، وإبداعا .. فبينما كنت أميل إلى صلاح عبد الصبور - خاصة - ورواد التفعيلة - عامة - ثم الذين يلونهم من شعراء الستينات، كان يميل إلى أدونيس (وإن كان من الرواد) ومريديه الذين ملأوا السبعينات تجريبا - نتفق على أصالته أو لا نتفق - وغموضا وإحساسا بمرارة هزيمة العام السابع والستين .. من خلال رؤية متشظية لواقع متشظ، عززته السياسات الساداتية .. (ربما لذلك نزح إلى الشمال الذي آوى كثيرا من مثقفينا في سبعينات القرن العشرين - هل نحن حقا في القرن الحادي والعشرين) .. ثـم تابـع يرحمـه الله (وإن كنت أعرف أنه ما زال حيا في الشمال) تجليات شعراء الثمانينات، وصخب التسعينات - انتهاء بالمشهد الشعري الراهن الذي كففت عن متابعته.
كنت - ولا زلت - أخطو في الشعر بخطوات أكثر رزانة، بينما كان يخطر في الشعر يحمله التوتر .. حتى بعد أن حملتنا الشواديف من هدأة النهر لتلقي بنا في جداول أرض الغرابة .. حتى بعدها، ما زلت أكثر تحفظا من زميلي الذي - حتما - زاد توتره بعد أن رحل إلى فرنسا.
عشقت صلاح عبد الصبور - غنائيا، ومسرحيا - تماما كما عشقت بهاء طاهر في القص - وملت ميلا شديدا إلى إبراهيم أبي سنة وإنجازاته المتئدة التي تضيق الرومانسية عن استيعابها، وتعلقت بملك عبد العزيز راهبة هامسة، لتتوالى الأصوات المتميزة والمتمايزة - قبل أو بعد ذلك - بدءا من بدر شاكر السياب شاعرا يتصف مشروعه بالعظمة، حتى آخر ثرثار اطلعت على إنتاجه في العربية .. في حين مال زميلي - في الطب، والشعر - إلى محمد عفيفي مطر، وأدونيس، وبودلير، ورامبو .. لا أذكر من تلك الأيام البعيدة - الآن - أكثر من هؤلاء ممن أحبهم.
دعت الجمعية الأدبية بكليتنا الشاعرة علية الجعار (لا أدري ما المميز جدا في علية الجعار حتى قاموا بدعوتها) إلى لقاء مفتوح مع الطلبة. كنا - في تلك الأيام البعيدة القريبة - نعيش حمى الانتفاضة الثانية. تسمع أغنية فيروز عن الغضب الساطع، ونهر الأردن الذي سيمحو آثار القدم الهمجية أينما توجهت - ورغم أن الله قد أطال في عمري إلى يومنا هذا، فلم أر غضبا ولا نهرا .. بل كلما ارتفع صوت فيروز بالغناء المتوعد، كلما ازدادت آثار القدم همجية، وعبثا .. وكأنهما طرفا علاقة طردية بين الجميل من جانب، والدود واليهود من الجانب الآخر .. ليت فيروز تكف عن الغناء علّ جديدا يحدث - تسمع الأغنية أينما توجهت، وترى ملصقات الإخوان على كل حائط .. حتى زادت الحمى ورثا العرب - جميعا - محمد الدرة، الذي اتضح - فجأة - أنه أخو الجميع.
جاءت علية وقالت ما قالت ثم بدأت المساحة المخصصة لإبداعات الطلبة .. والحق الحق أقول لكم: لقد أبدعوا. بكى الجميع أو تباكوا على القدس الجريحة والعرب المتفرقين .. بكوا على محمد الدرة على الأخص .. ووصفوا شارون بالشرير، والإرهابي، ودراكولا العصر، والخنزير - تماما كما فعل فاروق جويدة في تلك الفترة، وكما يفعل أحمد مطر في سائر الفترات .. شعر كالشعر، وما هو بشعر .. قصائد طنانة تقتضيها المرحلة، ثم ما أن تخبو "الهوجة" حتى تموت القصيدة .. لا تجد فيها ما يستحق القراءة، ولو حتى من باب الاجترار. لم يفلح أحدهم أن ينتج شعرا كشعر محمود درويش - أذكر الآن كم أحبه زميلي - أن يبحث في الآني عن الدائم، وفي المرحلي عن الخالد.
جاءت علية وقالت ما قالت، ثم بدأ زميلي يقول .. وماذا قال تحديدا؟ لا أذكر الآن .. لكني أذكر الانطباع العام على وجوه الطلبة، وضحكي المكتوم، ودهشة علية حين أجابها بتأثره في القصيدة بالشاعر الفرنسي رامبو، ودهشته لدهشة علية، ودهشة الجميع من الموقف. انتهى الحفل، ورحلت الشاعرة، وبدأت وزميلي الذي غادرنا إلى الشمال في اغتياب المرأة.
- بتقولي بودلير ورامبو من ثقافة تانية غير ثقافتنا فمينفعش نكتب زيهم
- يا عم ما انت شايف الناس كلها بتتكلم عن فلسطين .. حد قالك تقوم تتنطط وتقول رامبو، وكمان قصيدة نثر
لا أملك نفسي من كثرة الضحك - الآن - كلما تذكرت ذلك اليوم .. شيء ما يجعل للذكريات سحرا منفردا، حتى وإن كانت حاضرة من أيام مؤلمة .. كأيامنا تلك التي عانينا فيها التمزق بين طب لم نرغب فيه، وشعر أرانا أوسع مما نطيق، وأدمانا فما زلنا - بعد - ننزف.
أتساءل - الآن - بعد مرور كل هذه السنوات التي لم أنجز فيها شيئا يذكر، لو أن زميلي الذي في الشمال رآني وسمع مني .. بعد أن أحببت العامية، وقبلت النماذج الجيدة من قصيدة النثر، وأعجبت - بقليل أو كثير - من نتاج أدونيس ومريديه، وحاولت أن أستعين بتقنيات جديدة لم يستعن بها جيل الستينات، وأخيرا - بعد أن هجرت الشعر، والطب .. كليهما. أتساءل: ماذا كان ليقول؟
أما عن أمل دنقل .. فهو الوحيد الذي اتفقنا على الإعجاب به في تلك الأيام، وهو من كنت أنوي - أصلا - أن أكتب عنه. لكنْ - كالعادة - يا صديقي، إذا ركّبت كلاما فوق كلام .. من بينهما استولدت كلام .. ليستحيل الحديث عن أمل إلى حديث عن الغائب الذي صدّق أمل، فترك هذه الأرض، التي ما وعد الله بها من خرجوا من صلبها
وانغرسوا في تربها
وانطرحوا في حبها - مستشهدين
فادخلوها بسلام آمنين
At Tuesday, January 30, 2007, saso
قريت البوست في المكتب ..مش بضمير قلت استني .. قبل ماأقرا مبروك علي الشكل الجديد ..ميرسي انك سهلت عليا القراءة من اللون الأسود
بعد القراءة بقي ..حبه عقل
الاتفاق علي أمل .. راجعت أسماء كل من أعرفهم لم أنل نقاشا ما حول أمل دوما هو المجتمع عليه، الكثيرون يمقتون مطر والأغرب ان محبي جويدة -قافية الحنايا والمنايا وزمن العار تكاد تقتلني- كثر ربما يعترض من حولك علي السياب تعترض انت علي عبد العزيز شرف تهيم بمحمود درويش ولا تهتم بنزار فقط أمل استثناء
امسك دماغك اوي
كلبش في احلامك
حلوة
توقعت انه يسبقك في الطب بدفعتين وكذا الشعر اذن قصيدة النثر التي لا أهضمها ..أدونيس والحاج نقاشاتي السخيفة مع والدي فوضي الاوزان الخليلية والانتظام والايقاع ..ان تدافع عن فكرة لا تهضمها فقط تدافع عن حقها في التواجد ..وبعد ان تثبت وجهه نظرك ..تطوي الصفحات وتخرج احلام الفارس القديم و .. وتحلم
كدت اكتب عن نمطية شعر الانتفاضة وبراعة سلقة وعن عليه الجعار وحجازي ..تذكرت اني لم اقرأ احلام الفارس منذ زمن
تصبح علي خير
كلمة زميل قليلة في حقه ..