أما العراق الذي أعرفه فلا حرب فيه ولا ساسة .. وطن خالص من البلح والكلمات .. تفتحتُ - في صباي الشعريّ - على إيقاع رواده فأنسوني حضور الآخرين .. حتى عبد الصبور الذي انحزت إليه فيما بعد لم يفلح في انتزاعي من جلابيبهم، وخصوصا جلباب السيّاب الذي رأيته - ولا زلتُ - أعظمَ المعاصرين.
كنتُ حديثَ عهدٍ بتهاويمِ الرومانسية، ولغةِ الكلاسيكية، فعرفتُ نفسي في غنائيّته، وجذبتني عظمةُ قاموسه. أتذكّر الآن - بعد سنين في الشعر - فرحتي حين اكتشفت أعماله الكاملة أول مرّة في السنة الأولى لدراستي الجامعية. لم أكن قد قرأتُ للتفعيليّين غير بعض شذرات هنا وقصائد هناك. بدا خوض مائهم نوعا من المغامرة، فكان عهدي معهم أن أكشف عن ساقي قليلا ثم أترك الثوب فارّا حين تشتد الأمواج .. ذلك الإحساس الحذِر الذي تستشعره إزاء كل شيء لا تعرفه.
نفّرتنا "نسور" إبراهيم أبو سنة في المرحلة الثانوية حتى حالت بيننا وبين تذوق الحساسية الجديدة. كنا قد اعتدنا عمود الشعر في الدراسة السابقة حتى ظننا أي مسّ به نوعاً من التجديف، خصوصا وقد تلقينا النصوص الأدبية على يد أساتذة لا يدرون أصلا ما الأدب (وللتاريخ، أستثني الرائع حامد شرف الدين الذي علّمنا كيف نحبّه: شخصا، ومعلّما، وإلى حد بعيد لا منتميا). أقول لم يكن سهلا أن تتخللنا "النسور" في تلك الأيام، لا عيبا في القصيدة، بل في المتلقين أنفسهم. لم نشعر أيامها بإيقاع القصيدة الذي حدثونا عنه، ولم تقنعنا - نحن معتادي العمود الشعريّ - قافيتُها .. إلى أن أذن الله فكان التحوّل.
جذبتني مطولاته التي أبهرتني كَمّا وكأن الرجل يغترف من بحر (المومس العمياء)(حفار القبور)(الأطفال والأسلحة). لا تسعفني الذاكرة بالمزيد، لكنها تسعفني بجيكور وبويب - قريته الصغيرة ونهره الصغير اللذين خلق منهما السيّاب أسطورته الخاصة. قرأتُ ترجمته الموجعة وحاولت وأصدقائي تشخيص حالته الصحية. حاولت معهم - فيما بعد - اكتشافَ سبب إقرارنا بأنه الأعظم رغم قناعتنا أنه ليس الأفضل. حين تتسامق القامات وتشعر أمامها بالضآلة، لن تنشغل كثيرا بالأفضلية. فقط ستعلم أن الحياة والشعر يتسعان للجميع. لأنشودة المطر العراقيّة، ولأنشودتنا المصريّة - أو بالأحرى، لأنشودتنا الخاصة: صلاح عبد الصبور. ليظلَ ميلُنا إلى الأخير محضَ ميلٍ ذاتيّ ننأى معه عن المقارنات. وإن كان هو ذاته قد ساهم في تفتح وعينا للعراقيّين - وغيرهم. إذْ تركّزُ على مشروع أحدهم الشعريّ، تتكشف الفوارق بينه وبين الآخرين، فيتفتح وعيك لما يميّز كل شعرية مغايرة. وكم أفادتني قراءة عبد الصبور في فهم ما يشبه فوبيا الموت عند نازك الملائكة.
أعود من تذكّراتي مع السيّاب فأصطدم بالعراق الراهن وما يحدث فيه. يطرقني نفس الخاطر الذي طرقه (أيخون إنسان بلاده). أشتهي ما اشتهى (ليت السفائن لا تقاضي راكبيها عن سفار). لأنتهي إلى نفس الموقف (لتبكينّ على العراق فما لديك سوى الدموع - وسوى انتظارك دون جدوى للرياح وللقلوع).
ويبدو أنني لم أحبّ من العراقيين غير سريعي اليأس، فالبياتيّ الذي غنّى للفقراء والثورة لم يستهوني كثيرا. ربما لإيماني أن الشعر الأخف نبرة أكثر قدرة على التجاوز، وهو ما حققه البياتيّ نفسه حين هدأت نبرته وازدادت تقنياته بعد أعماله الأولى. لكنْ لسبب لا أدريه ظل جدارٌ من نفورٍ قائما بيني وبين الرجل حتى وإن هِمْتُ حبّا ببعض ما كتب. نفس الجدار - الأكثر سمكا في هذه الحالة - الذي يفصلني عن عبد المعطي حجازي رغم ولعي بإنتاجه.
أرضتني قصائد البياتيّ عالية النبرة في أيامي الأولى .. تلك الأيام التي كان كلّ شيء فيها عالي النبرة: الشعر الذي أكتبه، والشعر الذي أقرؤه، والسياسة التي أتعاطاها، والبيت الذي يقنعني بالممارسة الطبية والتخلي عن جرب الشعر، والواقع اليوميّ الذي يسيطر عليه الأخوان المسلمون داخل الحرم الجامعيّ، وأحيانا خارجه. كرّرتُ معه يوميّات سعيد الذي أتى من الجنوب، وعرفتُ معنى أن يكون الإنسان متسولا، عريان، في أرجاء عالمنا الكبير. وأغراني عصر المصانع والحقول - تماما كما أغراه - بقتل القرد الخليع، غير أن القرد كان أكثر خلاعة منّا، فمتنا مع الخريف ولم يمت.
أما عن النساء، فقد طغت على القلب ملك عبد العزيز برقة همسها حتى حالت - طويلا - بيني وبين كل شاعرة أخرى. لكن لسبب لا أدريه - ربما ملّتني - تنازلَتْ طوعا عن أجزاء في القلب سرعان ما احتلتها الأخريات، وكانت الراهبة نازك الملائكة أولاهن في الدخول. عرفتُها شاعرة (لا مُنظّرة) في مجموعتها "يغيّر ألوانَه البحرُ" لتبدأ علاقة توطدت مع الأيام والاقتراب الحميم من عالمها الشعريّ. ذلك العالم الذي يصادفك الحزن في كل شوارعه ومنحنياته: سوداويا مرة، وشفافا رقيقا مرة. اعتدتُ ترديد كلماتها في تلك القصيدة التي تغرز فيها خنجرا في باب عكّا، وتدكّ تل أبيب دكّا، لكنني كففتُ عن ترديدها حين صرتُ أكثر نضجا وأكثر واقعية .. وبالأخص حين علمتُ أن العلم الإسرائيلي لا يرفرف فقط في سماء تل أبيب، بل أيضا في سماء القاهرة.
لا صوت يشجيني - في الغناء - كصوت كاظم. صوت يغمغم بالكلمات كغمغمة النيران إلى العشب. يتأرجح حتى يتمزق بين الجهر وبين الإيماء. صوت مزروع في أقصى القلب. أحدس عبقريته اللحنية في قدرته المدهشة على الإتيان بما لم يستطعه بعض الأوائل. نفس الشيء الذي نراه عند سيد درويش، وعبد الوهّاب، والرحبانيّة، وبليغ حمدي. إلا أن امتلاكه حساسية العصر هو أكثر ما يميزه عن غيره. ذلك الوعي (ربما اللاشعوري) بوجوده في هذه اللحظة المعينة من التاريخ. فلو صح أن لكل عصر صوتا يميزه، فكاظم - بوجهه الذي يميل للإغماء - أصدق من يمثل عصرنا .. عصر الإنسان المهزوم.
أما العراق الذي أعرفه، فلا حرب فيه ولا ساسة .. بل وطن خالص من البلح .. والموسيقى .. والكلمات.