Sunday, August 18, 2013,10:57
تشوّش
مثلما كانت الأرضُ خضراءَ نقية، براءةً غفلا، كما خلقها الله، كان للموت هيبة. مرت قرونٌ فظهر الفسادُ فى البرِّ والبحر، فلا عادت الأرضُ كذلك، ولا بقى على هيبتِه الموت.

هاملت الذى يحرص فى لحظاتِ احتضاره المهيبةِ التى تضفى عليها التراجيديا جلالا (هو قرينُ الرهبة) لا يرحل هكذا دون أن يدعَ لـ هوراشيو الرفيقِ وصيةً/كلماتٍ أخيرةً يُكلِّلُ بها دماءَ الموقف. ورغم الموت الذى يضرب فى هذه الدراما الشكسبيرية، أحيانا غرقا جنونيا فى بِركةِ ماء (كأوفيليا)، إلا أنه – الموت – لا يبدو ابتذاليّا على الإطلاق. هالةُ العظمةِ هناك تحيط برءوسِ الجميع، حتى الأشرار.

متى – تحديدا – صار الموتُ – هكذا – مبتذَلا وعاديا وبالمجان؟ منذ دلفنا من بوابةِ عصرِ الإنسانِ الصغير؟ بتوقّفِ الكُتّابِ عن التعاطى مع البشرِ الآلهةِ الإغريقيين، والأرستقراطيةِ التى نجدها فى ملوكِ شكسبيرَ وأمرائِه، وتحوّلِهم – عوضا عن ذلك – إلى الإنسانِ العادىِّ الذى يصوّره تشيخوف، ويمسخُه كافكا، وتسحقُه – كما عند د. هـ. لورانس – آلةُ التصنيع؟

لقد اكتشف الإنسانُ أنه لم يعد مركزَ الكون، مجردَ نقطةٍ فى كونٍ متمدّدٍ فسيح، نقطةٍ لا أبعادَ لها مقارنةً بكلِّ هذا الملكوت. ربما غرّتـْه قدرتـُه على الاكتشاف، غوصُه الفرويدىّ فى النفس، شطحاتـُه الكوبرنيكية والنيوتنية فى الأفلاك، مقارباتـُه الأينشتينية فى الذرّة... التطورُ والكَمّ والاتصالات، لكنّ كل ذلك وإن أوحى له بالعظمة، فقد أوحى له – بالمثلِ – بالضآلة. نحن قمةُ المملكةِ الحيوانية، لكننا حيواناتٌ فى الأخير، حيواناتٌ توجد بوفرة، يشعر تجاهَها سارتر – كتكتّلاتٍ لحميّةٍ – بالغثيان.

ذهب كونُ نيوتن بلا رجعة، ذلك الكونُ الميكانيكىّ الذى لو عرفْنا سرعةَ ومواضعَ جسومِه فى لحظةٍ ما لأمكننا معرفة المستقبل، وجاء هايزنبرج بمبدأ الرِّيبة، لا ليطبعَ الفيزياءَ وحدَها، بل ليطبعَ عصرا بأكملِه، سيتوه منه اليقين، خصوصا بعد تكريساتٍ نيتشويّةٍ تحمل على العقلِ والموضوعيةِ ووهمِ الحقيقة وتنادى بموتِ الإله/المعنى. كان كل شىءٍ دافعا إلى مقولةِ صلاح فى "مأساة الحلاج": لا أبكى حزنا يا ولدى بل حيرة/من عجزى يقطرُ دمعى/من حيرة رأيى وضلالِ ظنونى/يأتى شجوى ينسكبُ أنينى.

ربما لا نبالى – ونحن المتأثرون بنظريةِ التلقى والتفكيك – بقصدِ المؤلفِ الذى أعلن موتـَه بارت ومِن بعده فوكو، لكن دعونا نتجاوز هذه المَرّة. قصص "الديكاميرون" لـ بوكاتشيو الذى يُسمى الحب "خطيئةَ الحياةِ الصغيرةَ غيرَ الضارة" – "دون كيشوت" سرفانتس وفارسها الأحمق الذى يحاربُ الطواحين – ألف ليلة وليلة... إلخ، هل قصدَ كُتّابُ هذه الأعمالِ كل هذا الذى نخلعُه عليها من تعقيداتٍ بعد أن لم يعد فى مقدورنا سوى التعقيد؟ كل هذه المراراتِ التى نُلْبِسُها هؤلاء الأبرياءَ، هل دارتْ – حقا – لهم ببال؟ ربما لن تعنينا إجابةُ هذا السؤال، لكنها كاشفةٌ عن مدى ما صرنا إليه من قتامة! وعندما شاهدتُ الفيلمَ الإيرانى A Separation، لم أملك – واكتموا ذلك – غيرَ البكاء؛ صارت الأمورُ على نحوٍ من التعقيدِ الذى نعجزُ معه عن إصدارِ أحكامِ الخطأ والصواب، هذا العجز المُفضى – وارجعوا ثانيةً إلى "مأساة الحلاج" – إلى الدمع. ومع ديستويفسكى، نعايشُ القاتلَ "راسكولينكوف" الذى لا يقتلُ من أجلِ المالِ أو الثأر، بل ليـُثْبِتَ – فقط – أنه جديرٌ كنابليون. حبيبتى، تغيّرَ الزمان!

يبدو أن الإنسان أوديبىّ بطبعه، وليعذرْنا الوجوديون على هذا التجاوزِ الذى قد يرونه أسبقيةً للماهيّةِ على الوجود، ومأساةُ أوديبَ – كما رأيتُها دائما – تكمنُ فى بحثِه من حيث كان عليه التوقف. دعونا – الآن – من ثيماتِ صراعِ القدَرِ التى تتبدّى فى التراجيديا الإغريقية، ولنركزْ على هذهِ النقطة: أوديب الذى يُصرّ على معرفةِ الحقيقة، فتنتهى رحلتُه فى الفجيعة: يتزوج أمه، ويفقأ عينيه!

ما الذى أكتب؟ لا أدرى! إنها واحدةٌ من "تلك اللحظات"، حيث يكون بمقدورِ المرءِ أن يكون أكثرَ تماهيا مع الجيلِ الضائعِ الذى أعقبَ الحربَ العالميةَ الأولى، فيفهمَ المناخاتِ التى ظهرتْ فيها الداديةُ والسرياليةُ والرجالُ الجوفُ والأرضُ الخراب. نحن محشوّون قشا وقتامةً يا رفاق!

وكنت قد أخبرتك يا حبيبتى أننى سأعمد إلى الحزنِ الذى فيك، فأجتثه – من النفس – اجتثاثا. لقد كذبت؛ ما ترسّخَ حتى الثلاثين عصىّ نزعُه، وفاقدُ الشىءِ – قالوا – لا يعطيه.

السماحَ، السماح!
 
Posted by Muhammad | Permalink |


4 Comments:


Post a Comment

~ back home