Monday, May 04, 2009,18:51
بريد دهشور

أكتبُ من دهشورَ يا صديقتي حيثُ الـ
لكنَّ مكتوبيَ لا يصل.

أستمعُ إلى فيروزَ كثيرًا هذهِ الأيام. أحتاجُ شيئًا ملائكيًّا وحزينًا فأستمعُ إلى فيروزَ كثيرًا هذهِ الأيام. وأشتاقُكِ كثيرًا هذهِ الأيام. أحتاجُ شيئًا ملائكيًّا وحميمًا فأشتاقُكِ كثيرًا هذهِ الأيام.

تسقطُ الشهورُ تباعًا في بئرِ الصيرورةِ دونَ أملٍ في تحوّلِ القلبِ أو النسيان. تتوقفُ قوانينُ الوجودِ (والعهدُ في الليالي تُقَسِّي) فلا أعودُ إلى السفرِ في أقاليمِ الليلِ والنهار. أنتِ الليلُ وأنتِ النهار. وأنتِ قانونُ الوجود. تحضرينَ فيقومُ التناغمُ والاتزان، وتغيبينَ فتختلُّ النغماتُ والمداراتُ والسكناتُ والحركات.

الخيال - ذلكَ الذي آمنَّا (وهمًا) أنه قد يُعوِّضُنا الغائبينَ - لا يُفلحُ إلا في إثارةِ التذكُّرات. لا شيءَ يُغني عن وجودِكِ الحيِّ سوى وجودِكِ الحيّ. أحتاجُكِ لحمًا ودمًا وجسدًا مشدودًا - كوترٍ - بالفرحِ وبالحياة. أحتاجُكِ روحَ فراشةٍ وثَّابةٍ ترتدي الجينزَ وتجتذبُ النور. أحتاجُكِ مملكةً من أنثى تضوعُ منها رائحةُ البعثِ والميلاد.

تحملني حلقاتُ الدخانِ المتصاعدِ من لفافةِ تبغي إلى مناطقَ نائيةٍ من شرود. تتغلبُ على ضيقِ الصحراءِ الواسعِ حتى تحطَّ الرحلَ في ميدانِ التحرير. لا شيءَ في الصحراءِ سوى الجدبِ إذ يتجلَّى في أبهى صورِهِ، واصفرارِ الروح. لا وقتَ للرحلاتِ الداخليةِ حتى أعماقِ الذات. لا يُراودني - ههنا - غيرُ احتضارِ الآدميةِ والخواء. يقولون إنَّ الأديانَ تنطلقُ من قلبِ الصحراء، لكنني - ولستُ أحملُ داخلي بذرةَ النبوَّةِ - لم أعد أطيقُ الصبرَ والاستمرار. ربما لو تغيَّرتِ المعطياتُ لَتغيَّرَ - كليًّا - شكلُ الناتجِ وربما لا بأسَ بالصحراء. ربما يتعلقُ الأمرُ بالحريةِ المقيَّدةِ والاغتراب. ربما لو كنتِ معي لَجعلْنا من الصحراءِ فردوسًا بريًّا وسطَ سُعارِ الجحيمِ الأرضي، ولَتعرَّفَ كلٌّ منا على نفسِهِ في مرآةِ الآخر.

كلُّ أحاديثِ الاشتياقِ مكرورةٌ وكلُّ الكلامِ مُعاد. لكنَّ الشعورَ - على تكرارهِ - يظلُّ طازجًا أبدًا وكأنَّ أيامًا متباطئاتٍ ولياليَ متطاولاتٍ لم تفُت. تأبى قشرةُ الجُرحِ أن تتكوَّنَ معلنةً قربَ الاندمال. يأبى القلبُ - في محبسيهِ: الصدرِ والحبِّ الخائبِ - إلا أن يرقَّ (والعهدُ في الليالي تُقَسِّي).

لستُ أعرفُ شيئًا في النتاجِ الكُلثوميِّ يضاهي "الأطلالَ" عظَمة. أبدعُ ما كتبَ إبراهيم ناجي، وأجملُ ما لحَّنَ السنباطي. تتضافرُ الكلماتُ الفرِحةُ والنغماتُ الفرِحةُ ساعةَ اللقاءِ لتبلغَ الملحمةُ أوجَ النشوة:

هل رأى الحبُّ سكارى مثلَنا ... كم بنَيْنا من خيالٍ حولنا
ومشَيْنا في طريقٍ مُقمرٍ ... تثبُ الفرحةُ فيهِ قبلنا
وضحكنا ضحكَ طفلينِ معًا ... وعدَوْنا فسبَقْنا ظلَّنا

ليرتبطَ الحبُّ بسُكْرِ الوجدِ والأخيلةِ والطرقِ المقمرةِ والضحكِ والعدْوِ والفرحةِ المتوثبة. ثم ما يلبثُ المنحنى المتصاعدُ أن ينهارَ - فجأةً - كجرف (خصوصًا مع الاستخدامِ المتكررِ لـ إذا الفجائية)، فتندقُّ أعناقُ المحبين:

وانتبَهْنا بعدما زالَ الرحيق ... وأفَقْنا ليتَ أنَّا لا نُفيق
يقظةٌ طاحتْ بأحلامِ الكَرى ... وتولَّى الليلُ والليلُ صديق
وإذا النورُ نذيرٌ طالعٌ ... وإذا الفجرُ مُطلٌّ كالحريق
وإذا الدنيا كما نعرفُها ... وإذا الأحبابُ كلٌّ في طريق

لتظهرَ مرادفاتٌ جديدةٌ تُضادُ - في مجملِها - مرادفاتِ المقطعِ السابق، إذ يكونُ الانتباهُ بعد الحُلم، والإفاقةُ بعد السكْر، والنورُ بعدَ الليل، في سياقٍ يتحوَّلُ الفجرُ معهُ - لدهشتِنا الشديدةِ - إلى نذيرٍ وحريق، فلا يرتبطُ بالسطوعِ والإشراقِ والحقيقةِ والولادةِ الجديدةِ كما هي الحالُ عندَ أغلبِ الكُتَّاب، بل يرتبطُ - كارثيًّا - بالأحبابِ الذين تفرقتْ بهم الطرق، مع الإشارةِ الدالَّةِ إلى الدنيا التي لا يثقُ بها كثيرًا شاعرُنا الرومانسيّ، والتي ترتبطُ عندَهُ بالفجيعةِ (لا بالحب)، حيثُ تكشفُ عن حقيقتِها - التي تقترنُ عندَ الدكتور ناجي بزوالِ الرحيقِ وانكسارِ الحُلمِ وافتراقِ الأحبَّة - متبديةً "كما نعرفُها". أضفْ إلى ذلكَ نغماتِ السنباطي التي تنتشي حدَّ التراقصِ في المقطعِ الأول، ليغلبَ عليها الرعبُ والحزنُ والخيبةُ والانكسارُ في المقطعِ الثاني، وسطَ نبراتِ الحسرةِ المتصاعدةِ من حنجرةِ أمِّ كُلثوم.

وأنا قد عرفتُ معكِ كلَّ ذلك .. الحبَّ الراقصَ على أنغامِ الفالس .. والحبَّ الراقصَ على دقاتِ طبولِ الذبح .. والحبَّ الذاهلَ في اللحظةِ الجهنميةِ الفاصلةِ بين الفالس .. والذبح.

يا حبيبي كلُّ شيءٍ بقضاء ... ما بأيدينا خُلقْنا تُعساء
ربما تجمعُنا أقدارُنا ... ذاتَ يومٍ بعدما عزَّ اللقاء

ربما .. وآه من قسوةِ ربما.

 
Posted by Muhammad | Permalink |


9 Comments:


  • At Wednesday, May 06, 2009, Blogger تــسنيـم

    إن كــان هذا ما ستبعث لها بــه فشكــرا لساعي البريد لأنه لم يقم بتوصيله


    صديقي.. عندمــا ترى الدنــيا من ثقب إبرة يصعب عليها أن تبتسم لنــا لأن الضحكة مش هتظهــر في الكــادر

    خفف عليك.. ودع الأمــور تجري في أعنتها ,, فبين طرفة عين والتفاتتها يبدل الله من حــال إلا حــال
    وكم يا صديقي من شتيتين ظن كل الظن أن تلاقيا



    حبة تفاؤل وتمسك بالحق في الحياة أبوس ايدك


    :)

     
  • At Friday, May 08, 2009, Blogger Mony The Angel

    يا حبيبي كلُّ شيءٍ بقضاء ... ما بأيدينا خُلقْنا تُعساء
    ربما تجمعُنا أقدارُنا ... ذاتَ يومٍ بعدما عزَّ اللقاء

    and maybe not

    face it :)

     
  • At Friday, May 08, 2009, Blogger تــسنيـم

    طبعا إنت متأكد إني لا كنت بجــامل ولا بسيــح وإني أخــر حد يملك هذا النـوع من الذكاء الاجتماعي.. ولكنهــا كلمة حــق وشــرف ندعــيه لما نقول إنك عمنــا يا كبيـــر

    وإن كان التواضع ألزمك بإنك تدّعي عكس هذا فهذا لا ينفي الحقيقة... "آيــة" مبهورة بيك فعلا وبكم الثراء/الإثراء اللغوي اللي تملكه وعندهــا حق أنا عن نفســي اتسطلت من زمـــان :)


    رجـــاء/ غير الأرشيف واعمله بالشهــور علشان بتعب لما باجي أدعبس ومش بعرف أخــد راحتي وإنت عارف أد إييه أنا فضولية ودعباسة

     
  • At Saturday, May 09, 2009, Blogger آيــة

    طيب يا ست تاسو .. هندي جمايلك دي كلها فين ؟؟

    محمد .. تسنيم قالتلي آجي هنا و مش هندم .. :)
    و بعدين سألتني ايه رأيك ..

    قلتلها مش هقولك ان الوجع يصيب مني كما لو كان وجعي ، و لا هقول ان الاسلوب اخاذ جدا و ساحر و آسر ...
    بس هقولك اني فعلا فعلا اتعقدت من هذا الثراء اللغوي و التعبيري ..

    لا اتعقدت ده بجد يعني ..اتـــعقـــدت
    :)

    لـ " ربما " قسوة تفوق قسوة الـ (مستحيل ) أحيانا .. أكرهها و لا اجيد التعامل مع الاحتمالات عموما .

    تفتكر لو ولدنا بلا ذاكرة .. كان هيبقى أحسن لنا ؟

    على أي حال .. أنت كنت سايب عندي عربون صداقة .. و أنا كنت جاية اشوف يعني نظام السداد :))

    خالص الود

     
  • At Tuesday, May 19, 2009, Blogger Muhammad

    تسنيم

    انتي معايا و الا مع ساعي البريد؟

    لا أدري و لكنني أحسب أن التفاؤل يحتاج طاقة نفسية لم تعد تتوافر لديّ أو ربما لم يحدث قط أن توافرت لديّ

    كنت قاعد مع احد الزملا بندردش. اثناء الكلام ساعته اتفكت و سوستة الاستيك وقعت ع الارض. فضل يدوّر عليها شوية فقلتله - بحسم - مش هتلاقيها. طنشني و كمل تدوير لغاية ما لقاها و ركّبها مكانها و لبس ساعته. قاللي اهو ده بالظبط الفرق بينا. انت قلت مش هلاقيها، و انا دوّرت و لقيتها و صلحتها

    واخدالي بالك انتي؟

     
  • At Tuesday, May 19, 2009, Blogger Muhammad

    Mony

    shall I?

     
  • At Tuesday, May 19, 2009, Blogger Muhammad

    تسنيم

    غيرنا الارشيف كِرْما لَعيونك، على الله يتمر

    طب بالله عليكي ممكن اقول ايه ردًا على كلامك الرقيق ده كله؟

    انتي سكر

     
  • At Tuesday, May 19, 2009, Blogger Muhammad

    آية

    سلمتِ من كل وجع

    اتعقدتي ايه بس يا شيخة! دي اقل حاجة عندي. أمال بقى لو شفتي البدلة الفُحلقي؟ تجنن

    ربما تعود حاجتنا إلى "ربما" في بعض الأحيان إلى ما تحمله من أمل (أو وهم) يخفف عنا - قليلا - ضراوة المستحيل الذي قد لا نطيق التكيف معه

    لو ولدنا بلا ذاكرة
    سؤال بالغ الصعوبة، إلا اني (و على الرغم من نصيحة صلاح عبد الصبور: لا تبحر في ذاكرتك قط) لا اظن انه كان هيبقى احسن لنا. احسب اننا - بلا ذاكرة - كنا لنتحول الى آلات جامدة. كنا لنكون صفحات بيضاء لا تدري شيئا عن التجارب السعيدة (فنحاول تكرارها) او الاخرى المؤلمة (فنحاول تجنبها). الذاكرة - رغم كل ما تحمله من ألم - تمثل لنا بعض العزاء

    في رواية بهاء طاهر "شرق النخيل" تتمنى فريدة شيئا مشابها .. تتمنى لو كنا كالزرع ننبت معا و نُحصد معا لينبت جيل جديد لا يدري شيئا عن الاجيال السابقة فلا يحزن احد على احد و لا يبكي احد على احد

    مش عارف يا آية .. الحكاية محتاجة تفكير كتير

    كده يا ستي يبقى وصلني منك اول قسط. عقبال الدفعات الجاية

    نورتي اكتر من لمبة نيون
    :)

     
  • At Thursday, May 21, 2009, Blogger عين ضيقة

    آت هنا وأنا فى أوجع حالاتى وأعلم أنى سأخرج موجعَة أكثر
    لكنه الشوق ياعزيزى

    ربما .. رغم أوجاعنا التى تتشابه فى أسبابها الى حد ما لكنى أشهدك على أنى أستمسك بربما حتى أموت
    ماذا يسعنا أن نفعل فى حياتنا كلها غير الانتظار؟
    إذن .. فلننتظر فرحا سيحدث لا موتا يقع

    (لم أولد لأعرف أننى سأموت .. بل لأحب محتويات ظل الله )
    فلتحب ما احبه درويش ولتنتظر فرحا أنتظره

    أعلم أنى تعبت من الرؤى وأعلم أنها ربما أضغاث أحلام .. لكن.. ربما واقعى حلمى وحلمى واقعى .. فلأعش ما أريده بحلمى الجميل

    ــــــــــــــ
    ربنا يهون عليك وجعك يارب

    لو قلتلك انا حاسة بيك أد ايه جايز ماتصدقنيش لكنى بجد حاسة بيك وبيها جدا

    ربك هيعدلها

    ــــــــــــــــــــــــــــ
    ياكلثومياتك العالية
    ماتشتغل ناقد يادفعة وجيب م الآخر بقى
    ـــــــــــــــــــــ
    واحشنا ياعم المبتسألش

    فابقى أسأل
    وكن بخير

    وشكرا ع المتعة مش ع الوجع

     

Post a Comment

~ back home