Monday, March 30, 2009,02:20
انكسار الروح

تقرأ الكثير أو القليل .. تجذبك شخوص وتنفرك شخوص .. يشحذون فكرك أو يهيجون عاطفتك أو يثيرون حنقك .. ليظل بعضهم – فقط بعضهم - هو الأقرب لك وكأنه توأم روح. تقرأ الكثير أو القليل .. تروقك كتب وتنأى عن كتب .. لتظل القدرة المدهشة على إدفاء روحك من نصيب كتاب واحد أو كتابين أو ثلاثة - فقط هذا العدد المحدود. تتوحد معه وجدانا وفكرا حتى تفنى فيه .. وكأنه يتحدث عنك أنت.

منذ ما يقارب العشر سنين كان "عصفور من الشرق" أكثرها إثارة لدفء القلب. كنتُ أدمن – أيامها – على تعاطي توفيق الحكيم، حتى كدتُ آتي على كل ما أنتج: مسرحا، وقصصا، وفكرا. ما زلتُ أذكر شغفي الصبياني (ربما لم يكن صبيانيا) بـ "شمس النهار" رغم قناعتي أنها ليست الأفضل أو الأعظم بين كل ما كتب، لكنني أحببتها على أية حال. داومتُ على قراءة عصفوره، وصادفتْ آراء إيفان الروسي واقتباساته هوى في النفس. كيف لا، وقد كان يحمل على الحضارة كما كنتُ أحمل عليها في تلك الأيام التي اتخذتُ فيها من "باطل الأباطيل باطل" شعارا لي؟!

تعرفتُ بعد الحكيم إلى بهاء طاهر فلم يدع مجالا لغيره. بدأتْ بيننا علاقة لا زالتْ آثارها في القلب – ندوبا وحزنا شفيفا - حتى اليوم، غير أنني سعيد بهذه العلاقة أيما سعادة. اعتبرتُه كنزا حين اكتشفتُه وخضتُ عوالمه، وبدأتُ الدعاية له بين من أعرف وأقدر. تعددت القراءات شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، لكنني لم أستطع فكاكا من هذه الربقة. هكذا يتم الأمر، تصطفي من الكُتَّاب من تشاء، وتسميهم – باستعارة اصطلاح صلاح عبد الصبور - "آباءك الفنيين".

ثم انقضت الأعوام وآن لي أن أشرك مع بهاء غيره، وكان ذلك حين أهدتني "انكسار الروح" لمحمد المنسي قنديل.

بديعة وبسيطة وفريدة وعذبة وصافية. لا يتسامق تعقد بنائها إلى الحد الذي تبلغه "قمر على سمرقند"، لكنها – على ذلك - تظل كالبنت الصغرى .. الأكثر دلالا ورقة .. والأقرب إلى القلب. كتبها المنسي قنديل بدمه فلم يدع لك خيارا سوى أن تقرأها بدمك. أغلب الظن – عندي – أن الرجل قد عايش مرارات حب خائب، وأنه لا زال يجد طعم ذلك في فمه حتى الآن.

"انكسار الروح" – كما تم توصيفها – أنشودة حزينة تغني الحب والحلم والفقر والألم والروح إذ تتكسر. تفرغ من قراءتها فتبكي، لا عن رومانتيكية بل عن إدراك .. إدراكٍ للحالة الإنسانية المحاصرة بالألم الداخل في نسيج الوجود. (الفرح قصير العمر واستثناء). تتعرض الرواية لفاطمة وعليّ، ولأحلامِهما التي تولد فتتكسر، أو لو شئتم الدقة: أحلامِهما التي تولد لتتكسر. تتعرض للغنى الفاحش وللفقر الأشد فحشا .. ولأبناء الوطن الذين يدفعون الثمن غاليا كدمع العين. تتعرض للتحولات التي شهدها العصر الناصري بما اختلج به من أحلام عريضات وآمال متطاولات على الصعيدين الشخصي والوطني ثم الآخر الساداتي وما صاحبه من تحكم السِفْلة في بني الأكرمين. غريبٌ أمرُ عبد الناصر، كان – ولا يزال – جدلية ممضة داخل النفس. نعرف شناعة أخطائه لكننا نُعجب به، ولا أبالغ لو زعمتُ أن الأمر قد يتطاول إلى مرتبة الحب. تشبه حكايته معنا حكاية الوطن، إذ ينطبق على كليهما قول جاهين: واكرهها والعن أبوها بعشق زي الداء. أزعم أنه – رغم كل ما فعل – قد أحب هذا الوطن، وأشتاق – رغم كل ما فعل - رجولتَه (وإن لم تخلُ من طيش)، وزعامتَه (وإن لم تخلُ من تسلط)، وأبوتَه (وإن لم تخلُ من قسوة). واقرءوا – إن شئتم – "انكسار الروح".

تبدأ القصة بكرا بكارة الطفولة ذات صباح شتوي. يهبط الدرج كما يهبطه كل صباح دون أن يخطر بباله أنه على موعد مع الشخص الأكثر أهمية في تشكل حياته القادمة ومصيره ... فاطمة ... غرامه الحزين. يكون اللقاء ويكون التغير، إذ لا يعود إلى رؤية العالم بعينيه .. بل بفاطمة. يرى بها الأشياء ويراها في الأشياء. ينسرب الزمن في نعومة فيفجؤك مرور السنوات. فجأة يصبح الصغار كبارا، فيسافرون من حزن الصبا إلى حزن الرجولة ... وكل العمر أسفارُ.

لفاطمة قدرة مدهشة على صنع المعجزات الصغيرة .. هكذا يعتقد عليّ. يؤمن بأثر لمساتها السحرية على الأشياء، وعلى قلبه. تغيب وتمعن – إذ تغيب – في الغياب. دأبها الغياب. تأتي بلا مقدمات، وتروح – في أغلب الأحيان - بلا مقدمات، تاركة لعليّ مرارةَ البحث، ولوعةَ الانتظار، وحرقةَ الاشتياق. تقسو الحياة ولكن قلب عليّ لا يقسو. يجوب القرى والمدن والشوارع الواطئة بحثا – كإيزيس الأسطورية – عن الخير الغائب. يخيب سعيه فيعود بلا أعضاء تتوق إلى نفخ الروح.

يلتقيان فيعرفان المتع الصغيرة، ويفترقان فيعرفان العذابات الكبيرة. تتفتح رجولته على بساتين أنوثتها صبية وشابة. جسدها كله - كما تقول - صالح للقُبَل. يتداخلان في يأس ورغبة ومحاولة مستحيلة للامتزاج، لكن شبح الفراق لا يكف عن الإطلال برأسه رغم حميمية العرق والأنفاس.

تفقد فاطمة بضعا من روحها المتوقدة بأثر سنوات الفقر، غير أن شيئا لا يفلح في إضعاف تشبثها بالحلم .. لا شيء يفلح سوى عليّ ذاته:

"كان كل شيء في طريقه إلى التوتر، والحرب المستحيلة تدق الأبواب. عملوا في مواسم الحصاد. ومحالج القطن. والمصانع الصغيرة القريبة من المدينة. انفرط عقد الأفواه الجائعة وتحولت إلى أبدان متعبة لا تكف عن اللهاث طوال النهار. كان هناك نوع من الحرص الغريب على العيش في حياة لا تستحق أن تعاش. جمعت فاطمة لطع القطن. ووقفت خلف دواليب الغزل. وحملت فوارغ المواسير في المصانع. وفي كل مساء مجهد كانت تعود وتنزوي في ركن البيت أمام مصباح معتم وتفتح كتبها القديمة التي تمزقت وضاعت صفحاتها. ثمة شيء في داخلها كان يدفعها للمقاومة. يرفض أن يحول حياتها إلى كدح يومي ووقوف مستمر على حافة اليأس والموت. كل هذه الليالي نامتها بلا أحلام. وزاد هذا من قسوتها. ثم جاء مدرس القرية الإلزامي يريدها، هللت أمها من الفرح. كان يريدها هي فقط بما عليها من ثياب. قال هذا مؤكدا وهو يفحصها بعين خبير جائعة. كان يجيد اختيار صفقته. ولكنها رفضت. نفس الشيء الذي في داخلها واصل المقاومة. دون أي أمل رفضته، وعادت تعمل وتذاكر وتمارس الجوع. تحلم بأنه ذات لحظة ما .. سترفع رأسها وتدخل الامتحان وتنجح وتدخل الجامعة .. كانت في حاجة حقيقية إلى معجزة لم تستطع أن تحققها لنفسها."

كان ثمن المعجزة - كما تقول - فادحا، إذ دُفع من دم الأخ الذي ذهب إلى الحرب. صرفوا المكافأة المالية بعد موته فاستطاعت أن تجمع الكتب وأن تدخل الامتحان وأن تطأ قدماها عتبة الجامعة.

لم يكن كل ذلك ليثنيها عن المقاومة والحلم، لكن الشيء الوحيد الذي لم تكن لتستطيعه هو التردد الذي أبداه عليّ حين اتهمها أحد مأفوني السياسة بالعمل مع المباحث. ولتسقط إذن يا قيصر:

- لقد ترددت ..
- ماذا؟ ..
قالت من بين أسنانها:
- عندما وجه إليّ الاتهام ترددت. لم ترد عليه على الفور، جزء منك كان يصدق .. جزء من عقلك كان يفكر.
- كذب يا فاطمة .. لم أشك فيك أبدا .. لقد قاطعتهم وجئت خلفك ..
- بعد أن فكرت .. كان يجب ألا تفكر .. يجب أن تكون ثقتك فيّ مطلقة .. لا تخضع لأي أهواء أو كلمات .. لقد ترددت يا علي .. وهذا فراق بيني وبينك.

قدرهما استنزاف اللقاء حد الفرقة، واستنزاف الفراق حد اللقيا. تروح أيام وتقبل أيام، وتموت أشياء، وتولد أشياء، غير أنهما - في الحب - على موعد، فهُما - حتما - بالغاه.

في الفيلم الأمريكي Cold Mountain يذهب Jude Law إلى الحرب تاركا خلفه المحبوبة Nicole Kidman أسيرة الانتظار، وحين يعود بعد سنواتِ شغف تستقبله - أول الأمر - ببندقية .. هكذا تتم اللقاءات في زمن الحرب. ولأننا نعيش في زمنٍ مشابه .. زمنٍ - بتعبير بريخت - أسود .. فلا عجب أن يلتقي عليّ وفاطمة - للمرة الأخيرة في الرواية - في دار بغاء.

"تمت الدورة .. وانقضى كل شيء يا فاطمة .. يا غرامي الحزين"

 
Posted by Muhammad | Permalink |


12 Comments:


  • At Tuesday, March 31, 2009, Blogger تــسنيـم

    آه يا وجعـــي ويا وجــع الرواية حين تلمسها الأنــامل



    كنتُ أتشوق لقراءتها .. أما الأن فإن قرأتها فابقى استاهل اللي يجرالي

    وش بيجز على سنانه

     
  • At Wednesday, April 01, 2009, Blogger LAMIA MAHMOUD

    انكسار روح
    :(
    يا اخي كفاية اسمها
    انت ما بقيتش تجرؤ تقول عليا سوداوية تاني على فكرة
    غلبتني يا بكوغتي

     
  • At Friday, April 03, 2009, Blogger Muhammad

    تسنيم

    فما بالك بالوجع إذا كان ما يلمس سطور الرواية هو أنامل القلب؟ و ما بالك بالوجع إذا تعرفتْ أنامل القلب (المجروحة) في سطور الرواية على نفسها؟

    أزعم أن انكسار الروح رواية لا يتكرر العثور على مثلها كثيرا في العمر، لذلك أراها تستحق المغامرة. اقرئيها و أعدك ألا تندمي رغم كل "اللي هيجرالك" .. ابتسامة مشفقة
    :)

     
  • At Friday, April 03, 2009, Blogger Muhammad

    لمي

    سوداوية!
    أنا قلت سوداوية؟!
    يتقطع لساني لو كنت مقولتش كده
    :D

    لازم تقريها على فكرة

     
  • At Sunday, April 05, 2009, Blogger m.sobhy1990@gmail.com

    هى إذا ترتيبات القدر

    قريتها للمرة التانية-مش عارف ليه- من حوالى اسبوعين

    .....................

    يابنى خليك فى بهاء طاهر احسن
    انا خايف عليك

    :)

    .....................

    ربنا معاك فى المعتقل
    :D

     
  • At Thursday, April 16, 2009, Blogger كرانيش

    بحب الكتابه بالطريقه دى
    والكتابه عن قراءاتك اعتقد ده شىء ممتع للغايه بحب اقرا كذا وجهه نظر فى القراءه لعمل واحد وانت كمان جايب عمليه التدرج اللى معظمنا ان مكانش كلنا مرينا بيها فى قراءاته


    شكرا لك لانك امتعتنى رغما عنى

     
  • At Saturday, April 25, 2009, Blogger Muhammad

    محمد صبحي

    و كأن الحال مع بهاء طاهر أخف وطأة

    منور يا عم محمد
    :)

     
  • At Saturday, April 25, 2009, Blogger Muhammad

    كرانيش

    الكتابة عن القراءات من أهم روافد إثراء النصوص، إذ ما دمنا - كبشر - لا نتطابق، فحتما ستختلف تأويلاتنا لنفس العمل، خصوصا و قد أصبح المتلقي في نظريات التلقي الحديثة من العناصر الفاعلة في العملية الإبداعية. الاختلاف حول تأويل نفس العمل خصوبة، و التفاعل بين هذه التأويلات المختلفة أيضا خصوبة

    جزيل الشكر للإطراء الرقيق، و للتعليق الذي أبهجني - رغما عني
    :)

     
  • At Sunday, April 26, 2009, Anonymous mony the angel

    azaiak ya ma7ammad :)?

     
  • At Sunday, April 26, 2009, Blogger Muhammad

    mony the sokkar :)

    مش عارف ليه سؤالك ده فرحني اوي كده

    يمكن عشان قريته الصبح بدري فكانت حاجة حلوة اوي فـ بداية اليوم!!! مش عارف

    عموما صباح الخير، و تسلمي، و واحشاني، و واحشاني مناكفتك، و كله كله

    :)

     
  • At Monday, April 27, 2009, Blogger سابرينا

    أنكسار الروح
    نعتقد انها تكون مرة في العمر...... ولكن مع مضي السنوات نندهش عدد المرات التي تنكسر فيها!
    ___________________
    في كل مرحلة يكون لنا مفضلون سواء ناس .كتب ...كتاب
    ساحرون فقط من يكونون المفضلون للنهاية
    لان العين تتجد رؤيتها دائما!
    ___________________________
    !قالت له فراق بيني وبينك
    كانت فاكرة نفسها نبي وهتصدق نبؤتها!
    منتهي العبط انك تتخلي علي توأمك لانه لم يكن كاملأ في لحظة من لحظات الحياة!

     
  • At Saturday, May 23, 2009, Blogger LAMIA MAHMOUD

    انت جالك زهايمر يا واد
    ما قعدناش ع البستان نتناقش في انكسار روح ساعة؟
    ما روحناش نجيب بيع نفس بشرية من ميريت عشان انت عايز المنسي قنديل تاني ومشينا لحد السيدة زينب وجيبنا قمر على سمرقند؟
    ورجعنا تاني نرغي على انكسار روح
    بكر
    امشي من هنا
    آه
    بالنسبة لآخر بوست
    عمر الـ27 سنة ما كانت كبرت
    وعمر العمر ما بينفلت من ايدينا الا لو احنا قررنا انه كده خلاص انفلت
    وكل طريق مشيناه يا معلم ساب فينا اثرين
    اثر سلبي علمك متقربلهوش تاني واثر ايجابي علمك تحس اكتر

    اقولك .. انا حسكت اصلا
    وعلى فكرة اه

    انت قلت سوداوية
    :D

     

Post a Comment

~ back home