Tuesday, April 09, 2013,06:27
نهايةُ القصّة
إثرَ واقعةِ الخامسِ من أبريل، توزع دمى بين انفعالات شتى: صدمةٍ .. غضبٍ .. ثورةٍ .. ألمٍ .. ندمٍ .. وحزنٍ بالأساس، حتى انتقلتُ – جيئة وذهابا – على التدريج الفاصلِ بين النقيضين، وفى كل الحالات، لم تواتِنى الانفعالاتُ صافيةً خُلْوا مما عداها، بل تداخلتْ وتقاطعتْ، وأنتجتْ نصوصها التى تراوحتْ بين استنزالِ اللعناتِ السماويةِ، على طريقةِ لير شكسبير، وجلدِ الذاتِ، مرورا بالمناطق المشتبكةِ بين الطرفين.
الرابعة فجرا، التاسع من أبريل، وواحدةٌ من "تلك اللحظات".
وبعد إشعالِ لفافةِ تبغٍ، أقول:
فكّرتُ – فى البدء – ألا تجترحَ يدى كلمةً واحدةً فى هذا الشأن، تأسيسا على فهمى الخاصِ للإذعانِ الصوفىِّ كما تبدّى لى، وقد تبدّى لى مقترنا وحاضرا فى الصمتِ، الذى يتخذ فى هذه الحالةِ سَمْتَ النبل. وبعبارةٍ أخرى: لا يكون الإذعانُ إذعانا صوفيا إلا بكينونتِهِ معاناةً مغرقةً فى الجُوّانيّة، وكلما أغرق فى الجوانية، كان أقربَ إلى معنى التصوفِ مما عداه. والسالكُ لا يمتنعُ عن "لفظ" اللسانِ ليطلق العنانَ لتشكّى القلب، بل إنه لا يصح إلا بعَقْلِ الجارحةِ والقلبِ معا، فيكون حَمْلُ النفسِ على الرضا الذى هو الانفعاليةُ التامةُ للقدرِ حَمْلا، مهما تطلّبَ ذلك من مكابدةٍ ومجاهدةٍ فى أول الأمر، إلى أن يستحيلَ التطبّعُ طبعا، وتحصلَ الانفعاليةُ فى التسليم. إن الإذعانَ الصوفىّ صامتٌ ونبيل، وهو نبيلٌ لأنه صامتٌ، وصامتٌ لأنه نبيل.
بهذا الفهم تخرج كلمات بدر شاكر السياب "لك الحمدُ مهما استطالَ البلاء/ومهما استبدّ الألم/لك الحمدُ إن الرزايا عطاء/وإن المصيباتِ بعضُ الكرم" – تخرجُ من فهمنا للإذعان؛ لأنها اجترحتْهُ بالكتابةِ القاصدةِ إلى النشر، والنشرُ ذيوعٌ، وخروجٌ عن خصوصيةِ العلاقة. إن الإشارةَ القرآنيةَ الوحيدةَ إلى أيّوبَ – الذى صارت معاناتُهُ مضربَ مثلٍ – تردُ فى موضعين: فى "الأنبياء - 83"، و "ص - 41"، وفيها لا يخرجُ أيّوبُ عن صمتِهِ إلا مناجاةً لله، وتوجّهًا له بالطلب. ولما كانت شكواهُ إلى الله، فوحده اللهُ من يخبرنا عنها، لا نقولاتُ التاريخِ الشفهيّةُ أو المدوّنة.
ولأننى دون ذلك، فقد اجترحتُ واقعتَىْ موتِ أبى والخامسِ من أبريلَ بالكتابة، التى تصبح – فى هذه الحالةِ – بديلا للانتحار، كما يشير علاء الديب، خصوصا وأننى أمِيلُ – بحكمِ الطبعِ – إلى إغلاقِ نفسى على ما فيها أكثر مما أميلُ إلى البوح، فتكون الكتابةُ آليةً ملائمةً لكشفِ غطاءِ المِرْجَلِ قليلا – حتى لا ينفجرَ – من ناحية، ومرآةً أتأملنى فيها وأحاول فهمى من ناحيةٍ أخرى، على طريقةِ كيركجورد الذى يقول: إن إنتاجى كله ليس سوى تربيتى لنفسى، ويقول: إننى على نقيض غيرى من الوعّاظ ... فبينما هم يجشّمون أنفسَهم مخاطبةَ الآخرين، أتحدث أنا إلى نفسى. لكنّ معاناةَ أيّوبَ قد كانت – بلا شكٍّ – أعظمَ من معاناةِ كيركجورد.
كنتُ قد وقعتُ فى أسر هذه المقولةِ – To understand is to forgive – التى تربط القدرةَ على التسامحِ بالقدرةِ على التفهّم، لأجعلَ من محاولةِ تفهّمِ ما قاد الآخرَ إلى ما يتطلّبُ المسامحةَ مدخلًا – وحيدًا – إلى المسامحةِ ذاتِها، غير أنى قد عثرتُ – فى الأثرِ – على ما يفوقُ هذه الصيغةً عظمةً، وأقصدُ – هنا – تحديدا – إلى الحديثِ الذى يتتبّعُ فيه واحدٌ من الصحابةِ رجلا قال الرسول إنه من أهلِ الجنة، ليكتشفَ – بعد إقامتِهِ عنده – أنه لا يعملُ كثيرَ عملٍ، حتى يخبرَهُ الرجلُ بأنه لا يبيتُ وفى قلبه غشٌّ ولا حسدٌ على أحدٍ من المسلمين، والحديثُ وإن اختلفَ فيه أهلُ العلمِ بين مُصَحِّحٍ ومُضَعِّفٍ، حتى لكان تضعيفُهُ أقربَ وأولى، إلا أنه قد نبّهنى إلى إمكانيةٍ أخرى للتسامحِ غيرِ المشروطِ بالتفهّم، التسامحِ الذى لا يفتِّشُ فى الدوافعِ والأسبابِ ليحللَها ويتفهمَها، بل الذى يوشكُ أن يكونَ (أو هو كذلك) محضَ إرادةٍ خيِّرةٍ تهدفُ إلى نقاءِ الداخلِ، انطلاقا من كونِهِ داخلا منكشفًا أمام الله، وتأسيسا على كونِ العلاقةِ – بالأساسِ وفقط – بين المرءِ وربِّه، لا بين المرءِ وتلك الذاتِ الأخرى موضوعِ المسامحة.
وإليكِ أتوجّـهُ الآن:
لا أريدُ لى أن أدخلَ معكِ فى علاقةٍ تسامحيّة؛ لأن التسامحَ يفترضُ – ضمنًا – صدورَ أخطاءٍ عنكِ تقتضيه، وقد عزمْتُ ألا أضعَ نفسى فى هذا الموقفِ الاستعلائىِّ الرامى إلى إصدارِ أحكامٍ خلقيّة؛ فما كان – أيّا ما كان – قد كان، ولن أعودَ إلى النبشِ فيه سلبا. كنْتِ – لسنواتٍ – جزءً من حياتى .. جزءً جميلا من حياتى لو أردتِ الصدق، ولستُ بقادرٍ على ولا راغبٍ فى التنصّلِ منه، وسأذكرُكِ – ما ذكرتُكِ – بخيرٍ، وبلا ضغينة. أرجو ألا يبدوَ هذا الموقفُ ذاتُهُ استعلائيّا، فكل ما فى الأمر أننى فى واحدةٍ من "تلك اللحظات". أرجو – كذلك – ألا يكونَ رخيصًا ومبتذلًا وكليشيهيّا كهذا النوعِ من النهايات. وفى الأخير، لقد أحببتُكِ بعمقٍ وصدق. وأيّا ما كان، فأنا أتحدثُ عن الجزءِ الذى يخصّنى فى العلاقةِ، وأنا أدرَى بنفسى وبه.
السادسة والنصف.