Thursday, September 05, 2013,19:35
الكلمة .. والسيف
قد يتأتـّى التغيير بالكلمة، وقد يتأتـّى التغيير بالسيف. ورغم الفقرة الختامية التى ينهى به صلاح عبد الصبور كتابه النثرى "حياتى فى الشعر" عن إيمانه العظيم الذى بقى له نقيا لا تشوبه شائبة، وهو الإيمان بالكلمة، إلا أن تتبع مُنجزه فى الشعر الغنائى والدرامى لا يجعلنا مطمئنين تماما إلى هذا التقرير الحاسم الذى يسوقه صلاح؛ إذ تشى سطوره بتردده الواضح بين الكلمة والسيف، وتأرجحه بين القول والفعل، وهو وإن كان ينسب إلى الحلاج القدرة على إحياء الموتى بالكلمات فى "مأساة الحلاج"، إلا إنه يكتب فى "ليلى والمجنون" عن النبىِّ المهزوم الذى يحمل قلما فى انتظار النبىِّ الذى يحمل سيفا، والذى يُشكِّل الخلاص. أقول إن تتبع مُنجزه الشعرىِّ لا يجعلنا مطمئنين تماما إلى هذا التقرير الحاسم، اللهم إلا أن يكون إيمانه بالكلمة إيمانا كيركجارديا لا يعنى زوال الشك، بل يتطلب تكرار القفزة – والمصطلح لكيركجارد فى التعبير عن طبيعة الإيمان – فى كل لحظة.

وأنا أؤمن بالكلمة وبقدرتها على التغيير، وأؤمن – على نحو أعم – بالمثلث الهيجلى (الفن – الدين – الفلسفة)، وإن أعدت تراتبيته بوضع الدين فوق الفلسفة، لكنى أؤمن – كذلك – بالسيف، الذى قد يكون – أحيانا – أصدق أنباء من الكتب، فيكون أقدر على حل نزاع عجز عن حله غيره من الوسائل.

زاد الحديث فى الحقبة التى سادت فيها النزوعات الاشتراكية عن الالتزام فى الفن، حيث دار النقاش حول موقف الفنان من قضايا مجتمعه، وعلت أصواتٌ ماركسيةٌ تنادى بإخضاع الفن للأيديولوجية؛ ليكون فنا ملتزما لا يوصف بالتهمة الجاهزة: الرجعية. ونحن وإن سلّمنا بما للفن من غايات أخلاقية واجتماعية وهلم جرا، إلا أننا لا نسلم أن يتم ذلك بطريقة مباشرة تكون فيها علاقة الفن بالسياسىِّ أو الأخلاقىِّ أو الاجتماعىِّ علاقةَ التابع بالمتبوع، أو علاقة الموظف؛ فالفن يؤدى وظيفته فى التغيير بطرق الفن وجمالياته، ومجالُ عمله الإنسان.

ليست – إذًا – وظيفة الفنان أن يتصدى إلى اليومىِّ والعابر بمعايير اليومىِّ والعابر، بل بمعايير الفن الباقية التى تقصد إلى التغيير على المدى البعيد بتغيير الإنسان ذاته، وقد يلجأ إلى أساليب اليومىِّ والعابر فى إحداث التغيير، لكنه لا يلجأ إليها بوصفه فنانا، فحينما حمل الكُتاب الفرنسيون السلاح لمقاومة الغزو النازى لم يحملوه بوصفهم كُتابا، بل بوصفهم مواطنين يتعرض وطنهم للغزو، وعلى الجانب المقابل، قاوم المثقفون الألمان المعارضون للنازية جنون هتلر من غير طريق الكتابة. يقول سارتر: عندما كانت تحكم الألمان حكومة نازية مستبدة، كان من الجلىّ أن واجب الألمان المعادين للنازية أن يحتجوا ويقاوموا ويعارضوا، سواء أكانوا كُتابا أم غير كُتاب. لكن ما حدث فى الواقع أن قيام الكُتاب بهذه المهمة ككُتاب كان أمرا مستحيلا، وأنهم أعربوا عن مقاومتهم ومعارضتهم بوسائل أخرى، كالانضمام إلى الجمعيات السرية، أو القيام بعمل من أعمال الاحتجاج كترك الجامعة إن كانوا من أساتذتها، أو الاستقالة من العمادة إذا ما طُرد أحد الأساتذة اليهود، لكن لم تثر فى أى حال مسألة إبداء احتجاجهم عن طريق الكتابة.

وتأسيسا على ذلك، فإن المُنتج الفنىّ الجيد الذى يخرج من عباءة البرناسية (الفن للفن) لا يقل أثرا عن المنتج الفنىّ الجيد الذى يخرج من عباءة الواقعية الاشتراكية فى إحداث التغيير، ما دمنا نلعب على وتر إعادة تشكيل الإنسان وصياغته صياغة جديدة. إن الفن لا ينقسم إلى فن تقدمىٍّ وآخر رجعىّ، بل إلى فن جيد وفن ردىء، وكل فن جيد هو فن تقدمى.

تعلّقَ التخوف الذى أبداه حلاج عبد الصبور بإيجاد السيف المبصر، والمُخلِّص الذى انتظره سعيد فى "ليلى والمجنون" هو ذاك الذى يتمنطق بالكلمة ويغنى بالسيف. إنها الحكمةُ ما كان يصبو إليه صلاح، حكمةُ وضع الكلمة فى موضعها، والسيف فى موضعه، حكمةُ المزاوجة بين القول والفعل.
 
Posted by Muhammad | Permalink |


8 Comments:


  • At Thursday, September 05, 2013, Blogger shaimaa samir

    محمد
    مممممم
    في مقطع في النص كدة بدايته " ليست – إذًا – وظيفة الفنان أن يتصدى إلى اليومىِّ والعابر بمعايير اليومىِّ والعابر، بل بمعايير الفن الباقية التى تقصد إلى التغيير على المدى البعيد بتغيير الإنسان ذاته، وقد يلجأ إلى أساليب اليومىِّ والعابر فى إحداث التغيير، لكنه لا يلجأ إليها بوصفه فنانا،

    محير بالنسبة لي للوصول لفكرتك!

    انا بعتقد ان كل انسان علي " ثغر"
    ازاي يقدر بالفن يعمل حاجة
    بالكتابه
    بالسينما
    ازاي ااقدر اشوف الواقع " بعيني الفنية" واغيره برؤيتي اللي المفترض علي خلفية لا تبتعد عن الدين والفلسفة

    بص الموضوع محتاج قراءة تاني :)

     
  • At Thursday, September 05, 2013, Blogger Radwa

    الله
    تصفيـــــــــــــــــــق

    تسلملنا يا محمد
    ــــــــــــ

    في ظني يا شيماء محمد يقصد إن تأثير الفن بعيد المدى.. مش لحظي!

    وده لا يتعارض مع كلامك إن كل إنسان على ثغر.. والفن مش ضعيف التأثير/التغيير في المجتمع هو بس بطيئ!

     
  • At Thursday, September 05, 2013, Blogger سوبيا

    " إن الفن لا ينقسم إلى فن تقدمىٍّ وآخر رجعىّ، بل إلى فن جيد وفن ردىء، وكل فن جيد هو فن تقدمى. "

    أه.. :)

     
  • At Friday, September 06, 2013, Blogger Muhammad

    العزيزة شيماء

    كما أشارت رضوى، التغيير بالفن يكون على المدى البعيد، ولا يكون إلا بطرق الفن ذاته. خلينا نضرب مثال بقصائد فاروق جويدة ايام العدوان على غزة. كانت قصائده تعالج الاحداث بصورة مباشرة وخطابية تبتعد كثيرا عن المعايير الفنية والجمالية، لنجد ان فاروق قد تعامل مع اليومى والعابر (الحدث السياسى/النضالى/الوطنى) بمعايير عابرة تتأسس فى تفريغ الغضب والادانة وهلم جرا، وكأنه يمارس عملا تظاهراتيا وليس عملا فنيا. الفن لا يغير بهذه الطريقة، بل إن قصيدة سيريالية مثلا لا تتناول الموضوع على الإطلاق قد تكون أقدر على التغيير بعيد المدى، لأن الفن الجيد طريق إلى الترقى، أو هو واحد من أضلاع الثالوث الهيجلى (الفن - الدين - الفلسفة) التى نصل من خلالها - طبقا لهيجل - إلى الروح المطلق. ليس على الفنان إذًا أن ينحى منحى تعليميا او وعظيا او خطابيا او مباشرا، بل عليه فقط ان يُنتج فنا جيدا يُراعى معايير الفن الجمالية، والفن سيتكفل بالمهمة. بعبارة مختصرة: الفن يغير بطريقة غير مباشرة. وهذا متعلق أشد التعلق بما أسميتِه "العين الفنية"، العين التى لا تتعامل مع الواقع/الوجود بمنطق المحاكاة الحرفية، بل تلتقطه التقاطا فنيا

    معلش يا عمى؛ مش بعرف ابعبر كويس
    :$

     
  • At Friday, September 06, 2013, Blogger Muhammad

    رضوى هانم

    لا داعى للتصفيق الحار. منكم وبكم ولكم وعليكم. رمز الجمل
    :D

    يسلملنا مرورك المميز يا ست الكل

     
  • At Friday, September 06, 2013, Blogger Muhammad

    ايمان

    صح كده يعنى؟ :)

     
  • At Friday, September 06, 2013, Blogger Muhammad

    شيماء

    قارنى بين قصائد فاروق جويدة فى تلك الفترة وبين "اتزان" وليد نفس المرحلة حسب علمى. "اتزان" أكثر فنية، رغم انه (او بالاحرى بسبب انه) لا يتناول القضية تناولا مباشرا، وبالتالى فهو أكثر قدرة على التغيير من قصائد جويدة الصاخبة

     
  • At Friday, September 06, 2013, Blogger shaimaa samir

    محمد كانت هذة الجملة هي المحك في فهمي "وقد يلجأ إلى أساليب اليومىِّ والعابر فى إحداث التغيير، لكنه لا يلجأ إليها بوصفه فنانا،

    وقد اوضحتها ومتفقة معاك
    جدا جدا جدا جدا جدا

    كنت اتحدث مع معلمي عن الخلود في الفن والادب

    جميل انا سعدت كثيرا

     

Post a Comment

~ back home