Monday, November 04, 2013,13:32
فى الحادية والثلاثين - العاشرة
لما سأل رستمُ الفارسىّ ربعىّ بن عامر ما جاء بكم!، كان جوابه: "لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة". يبدو واضحا – تماما – أن الرجل يعرف غايتَه/سببَ الحضور إلى هذه البقعة من بلاد الله.

ما أن أُحدِّثَ الرجلَ من المسلمين عن فرائض الله التى افترضها على من رضوا الإسلام دينا (أو زعموا ذلك) فتكون أولُ مقالته: والنصارى؟! حتى أعرف فيه النفاق. ولست أقصد بذلك إلى غمط من هم على غير الملة حقوقَهم (وسنختلف – كثيرا – فى تعريف الحق)، لكننى لا أجد مسوغا – فى عصرٍ صار بمقدور كلِّ أحدٍ فيه أن يتكلم (وأشياء أخرى) – أن يكون الموقف الابتدارىّ لمسلمٍ هو أن يضع نفسه فى مواقع الآخرين، وذلك قبل أن يتكلم – حتى – بالأصالة عن نفسه.

إن هذه الفئة لا تسعى إلى تبصيرنا بالعراقيل التى تجابه تطبيقَ شريعة المسلمين على المجتمع بأسره (رغم ما يفتقده التعبير من دقة) بقدر ما تسعى إلى خلق هذه العراقيل. وقبل أن يفجأنى واحدُهم بأحد شطرى حديثين لا يعرفون من الإسلام غيرهما فيما يبدو، ألا وهما: "أشققت عن قلبه"، و "أنتم أعلم بشئون دنياكم"، قبل أن يفجأنى واحدُهم بالسؤال الأثير: أشققت عن قلبى؟! أجيبه: لا، لم أشق عن قلب أحد، لكن الله يقول: "ولتعرفنّهم فى لحنِ القول"، فما بالكم وأنتم لا تنطقون إلا لحنا؟!

تعكس إجابةُ ربعىّ بن عامر فهمَ الرعيل الأول لقضيته؛ فهو ينسب الأديان إلى الجور، وذلك فى مقابل العدل الذى ينتسب إلى الإسلام؛ الفارق كبير – إذًا – بين سلفٍ رأوا الأمور على هذا النحو، وخَلَفٍ زينوا لكل صاحب دينٍ دينَه، بوصفه – ككل دين – حقا؛ إن كل الطرق – فى نظر الخَلَف – مؤديةٌ إلى الله!

ومثلما لا يعرفون من سنة نبيهم غيرَ هذا وذاك، فلا يعرفون من كتاب ربهم – كذلك – إلا شطرى آيتين: "لا إكراه فى الدين"، و "لكم دينكم ولى دين". هكذا يقتبسونهما دون إحالة إلى كامل السياق، أو إلى ما تعلق بهما من باقى نصوص الوحى. قال تعالى: "لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم - الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون". شتان – إذًا – بين من يسوق ما اقتطفه من الآية ليوحى باستواء الطرفين، وبين من يُنبِّه إلى ما تحمله الآياتُ من تهديدٍ مُبطّن ما يلبث أن يظهر بقوله تعالى: "أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون". ولمن أراد أن يعود إلى أقوال المفسرين فى الآية؛ ففى أقوالهم توسعٌ يضيقُ عنه المقام.

أما آية "الكافرون" التى يعمِدون إليها فى سياقاتٍ تضليليةٍ مماثلة فيكفى أن نضع إلى جوارها ما قاله النبى محمدٌ بشأن هذه السورة؛ ليتضح مُرادُ رب العالمين: "إنها براءةٌ من الشرك".

قلت إننا سنختلف – كثيرا – فى تعريف الحق؛ فما سيعُدّه بعضُهم/بعضُكم بدهيّا لا حاجة به إلى استدلال، سأعتبره مُتهَما حتى تثبت براءته بالتأصيل. إن كل اختلافٍ بين مسلمَين واجبُ الرد إلى الكتاب والسنة، وهنا – تحديدا – يكمن الخلل؛ فما كان أوليّا فى الزمن الأول صار يُلجأ إليه – فى الزمن الأخير – بَعديّا a posteriori؛ للتبرير والتسويغ والشرعنة والأسلمة، وأعنى بذلك أن الفكرةَ تُعتنق – ابتداءً – ثم يُنظرُ – بعد ذلك – فيما يمكن أن يسوغَها من نصوص، صراحة أو تأويلا.

التسـامـح الـدينـى Religious Tolerance، حـريـة التعبيـر Freedom of Speech، حقـوق الإنسـان Human Rights... إلى آخر قائمة المُسلّمات، وأعنى هذه المفاهيمَ فى صورتها الحالية المتداولة، ليست سوى منتوجاتٍ تنويرية وحداثية أوربية بالأساس تم استيرادُها من بيئات مغايرة، ولأن مستوفديها قد حكموا – "سلفا" – بصلاحيتها ووجوب زراعتها، ولأنها ستُزرع فى بيئة مسلمة؛ فقد وجب شرعنتُها وأسلمتُها؛ كى تمر. أقول ولو كان الغرسُ لِيتمّ فى بيئة تغلب عليها المسيحية، لجاءت التسويغاتُ من الكتاب المقدس وأقوال القديسين، ولو كان ليكون فى بيئة يغلب عليها تدينٌ وثنىّ، لجاءت التسويغاتُ – غالبا – على لسان وحى دلفى، ولدُعمت الآراء بسطورٍ من هوميروس.

وليس غرضى – ههنا – أن أحكم على هذه القيم سلبا أو إيجابا؛ رفضا للمبدأ ذاته، وليس يُجدى أن يقول القائل: "إذن ننغلقَ على أنفسنا ولا نفيد من الثمرات الخيّرة للآخرين حتى لو لاءمتنا؟"؛ إذ الحالُ ليست كذلك؛ لقد حُكم بنجاعتها حكما "مسبقا"، حتى لم يعد لسؤال الملاءمة محل! إنها لم تعد قيما واجبةَ العرض على معيار الملاءمة؛ لقد صارت هى ذاتها المعيار!

منذ شهور، تورطتُ فى نقاشٍ حسبته عقديا وفقهيا بالأساس، غير أن مُحاورى لم يُحلنى – مطلقا – إلى آيةٍ أو حديثٍ أو قولِ واحدٍ ممن يسميهم القرآن "أهل الذكر"؛ أحالنى – عوضا عن كل ذلك – إلى الفيلسوفين الألمانيين شوبنهاور وفويرباخ، وإلى الأخير تحديدا؛ كونه – فيما أعلم – أكثرَ استفاضة فى نقاش الدين على هذا النحو. كان جليا تماما أننى فى وادٍ والرجل فى واد! وربما يوضح ذلك أن نقول إن فويرباخ قد رد الدين – فى الأخير – إلى أنثروبولوجيا؛ لقد جعل الإنسانُ من ذاتِه محمولاتٍ لذاتٍ إلهيةٍ مفارِقة، فكان الاغتراب. وبعودة المحمولات الإلهية التى خلعها الإنسانُ على الكائن المفارق إلى الإنسان، تتم الحركةُ الثلاثيةُ للديالكتيك (synthesis < antithesis < thesis)، ويتحقق جوهرُ الدين بوصفه أنثروبولوجيا. بعبارة أخرى: إن كل الصفات التى نخلعها على الإله ليست سوى صفات "النوع" البشرىّ ذاته، أو كما يشيع القول: إن الله لم يخلق الإنسان، بل خلق الإنسانُ [فكرةَ] الله.

أدرك – الآن – أن النقاش برمته قد انبنى على مغالطةٍ منطقية، حتى إننى لأحسب إن فويرباخ نفسه ما كان ليقوده على هذا النحو، غير أنه يوضح – رغم ذلك – عِظمَ الفارق بين تصوّرَيْنا لمصطلح "الدين" ذاته! وما بدأ يتجذر من النحو باتجاه "أنسنته".

ولتكتملَ فائدةُ ما سبق أن أشرنا إليه فى حديثنا عن منتوجات الحداثة؛ ربما يكون ذا فائدةٍ أن نُـحيلَ إلى الحملة ما بعد الحداثية على هذا الفكر – الحداثى –، ومفرزاتِ عقله الأداتى، وسردياتِه الكبرى/ميتا-حكاياه، التى لم تقدم إجابةً شافية، بل حربين عالميتين، وتوسعاتٍ استعمارية، ونظمًا فاشيةً ونازيةً وستالينية. ومع الحقبة/الحالة/الفكر ما بعد الحداثى، تُدق أجراسُ الموت، وتشيع فكرةُ النهايات (موت المؤلف - نهاية التاريخ - موت الإنسان - تقويض الميتافيزيقا... )، ومن قبل، كان نيتشه قد أطلق صيحته بموت الإله. هـل انتهـى الفكـر الأوربـى/المـركـز/المعيـار – إذًا – إلى عـدميـةِ إعـلانِ النهـايـةِ لكـلِّ شـىء؟

عقائدُ الإسلام توقيفية، وليست موضوعةً thesis تتفاعل والنقيضةَ antithesis؛ لتنتهىَ فى المركب synthesis. حدث ذلك من قبل على يدِ أمثالِ أصحابِ التصوفِ الفلسفىّ، وهو يحدث الآن، فحَتّام، وإلى أين؟!

وما أبرِّىء نفسى؛ فقد لحقها من الانحرافاتِ الفكريةِ الشىءُ الكثير.
 
Posted by Muhammad | Permalink |


8 Comments:


Post a Comment

~ back home