فتّشتُ البارحةَ أدراجي بحثاً عن قلمٍ أقبضُ بهِ على زمامِ فكرة
فلم أجد
أنا الذي قايضتُ العمرَ بقلم
لم أجدْ واحداً حين احتجتُه
واضيعتاه
إذا كنتِ حبَّ العمرِ والعمرُ مَرَّة، فكيف - باللهِ - يمضي دون أن نتوحد؟
بعد حَصْر أرغفة الخبز الشامي والبلدي ونصف الآلي والفينو، وأطباق البيض المقلي والمسلوق والأومليت، وكيلو جرامات الجبن الرومي والأبيض والمثلثات والإسطنبولي، وحبات الفول واللوبيا والفاصوليا والبازلاء والذرة، وأكياس الأرز والعدس والمعكرونة، وصواني البطاطس والباشاميل والمسقعة والبوفتيك والبسبوسة والكيك والجلاش والكنافة، وأصابع الكوفتة والسوسيس ومحشي ورق العنب والكرنب والباذنجان، وأطنان دقيق الفطائر والكعك والبسكويت والبيتي فور والغريّبة والبيتزا والتورتات والجاتوهات، وكميات الطماطم والصلصة والكاتشب، وعيدان الخس والجرجير، وعبوات السمن والزبد والزيت والخل، وأكياس الكمثرى والموز والعنب والمانجو والتفاح والجوافة والخوخ والبرقوق والبرتقال واليوسفي والكنتالوب والفراولة والمشمش والبلح، وجالونات ماء الصنبور والعصائر والمياه الغازية، وعلب الكبريت والتبغ، وأوراق كراسات وكتب الدراسة والكتابة والقراءة، وصفحات الإنترنت، والبكاءات، والضحكات المغتصبة والصفراء والصافية، والأحلام المنهارة، والراحلين غيابا وموتا، والفتيات، والصداقات الباقية والمنتهية، وجروح نزق الصبا الأول في الجسد وتجريب النضج في الروح، ولحظات السعادة المختلسة، والنظرات والكلمات والإيماءات والتلويحات والخطوات والصفعات..
بعد حَصْر خمسة وعشرين عاما في هذا العالم، أدرك – الآن – أن وظيفتي فيه لا تعدو وظيفة إسماعيل ياسين على المدفع ... بُرُرُم.
شاهدوا المشهد، واضحكوا باكين أو ابكوا ضاحكين، فليس من كبير فارق بين غناء الحمامة وبكائها، كما قال حكيمُ المَعرّةِ المحزون.
مفتتح: ....ـا..، أخبري مَن عن هوانا سائلٌ ... أن هذا القلبَ محتاجٌ لنبضِ
قال: صحبتَني فكنتَ خيرَ صحبة. وأخذتَ عني فكنتَ خيرَ مُريد. ربّيناك فينا صبياً فلبثتَ في الطريقةِ من عُمُرك سنين. وأخذنا بيدك فانتهيتَ عن العالمين. عرفتَ البوادهَ والطوالعَ، واللوائحَ واللوامعَ، حتى استقر فيك اليقينُ، وبلغتَ التمكينَ بعد التلوين. ترقّيتَ في المقاماتِ فنحُلَ بدنُك. وواتتْكَ الفتوحاتُ فازدادَ وجدُك وشجنُك. أكرِمْ بمَن تبِعنا فصَمتَ صيانةً للعهد. ومَن شاهدَ فسكتَ تأديةً لحقِّ الوُد.
قال ادنُ مني، فدنوت.
قال ادنُ مني، فاستعبرتُ وأَجْهشتُ وبكيت.
قال بَعُدَ سفرُ الطالبين، وقَلَّ زادُهم. واستوحشَ عليهمُ الطريقُ فلم يُسعفْهم عَتادُهم.
ثم مَرَّ بأصابعه فوق رأسي وقال – (وله نشيج) – : ولي كبدٌ مقروحةٌ من يبيعني ... بها كبداً ليست بذاتِ قروحِ. أباها عليَّ الناسُ لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علةٍ بصحيحِ
قال: ألم تعدْ تستطيعُ معي صبرا؟
قلتُ: بلى
قال: فما لصدرك يئزُّ كمِرْجَل؟
يا رعاكَ اللهُ يا إمام. علاقتي محكومةٌ بالمسافة. بينيَ ومحبوبي سبعُ بحارٍ وسبعُ صحارى. وأنا لا ناقةَ لي ولم أركبْ سفينة. أجهدني السفرُ، وأتعبني البعدُ فالإمعانُ فيه. حتى إذا ما حطَطْتُ الرحلَ وأوشكتْ شفتايَ أن تلامسَ الكاسَ، انتزعها الساقي وأوصدَ دونيَ الأبواب. ما أقصرَ عُرسَ الأفراحِ – يا شيخي – وما أقسى الحان.
ألقاهُ مُقْبلاً كأنيَ لا أجدُ ما أجدُ حتى يُفضَّ السامر. وأكتمُ دمعاً صوفيّاً من خلائقِهِ الكبرُ مخافةَ لومِ الخلائق. لكنني إذ يجنَّ الليلُ ويخلو الحبيبُ إلى حبيبهِ أتوحد. أبسطُ يدَ الهوى وأُكفكفُ دمعي بخِرقتي التي تحمل اسمي ووَسْمي ووَصْمي. ثوبُ صبري منخرقٌ - وايْم اللهِ - لكن أرقِّعُه.
فإذا ما أشرقَت الشمسُ الحزينةُ على وجهي الممتقعِ الأسْيانِ، خرجتُ إليكم باشَّاً، وتدثّرتُ بصمتي وعينيّ المسبلتينِ كمَن يوشكُ على الإغماء. لا إعياءً بل وَجْدا. لم يعدْ نهرٌ يغسلُ – يا شيخي - الجروحَ، ولا شربةٌ تمسكُ الروح .. لا منزلٌ، لا مُقام.
فعلى العاشقين السلام. والسلامُ على مَن أقام.
مفتتح: كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي مغسله. هذا ما ورثناه عن شيوخنا كابرا عن كابر.
منصتاً كنتُ قبالتَه. جلستُ كما يليق بمريد. حدّثَني ثم حدّثَني حتى روِيت. وما أن روِيتُ حتى عاودني الظما. صمتَ فأمعنتُ فيه النظر. كم غيّرتك السنون يا شيخي! وكم وخطَ البياضُ رأسَك! رأيتُه محزونا فشاغبتُه مُسرّيا:
- هل خانتك امرأةٌ؟
- قالَ: بل الدنيا.
قلتُ: خبِرتُكَ في الطريقةِ عددَ سنين، فلم أعهدْك كاسفَ البالِ إلا وأبهجَكَ حديثُ المحبوب. قال: ألم أحدّثْك البارحةَ بأمرِ الأصابع؟! قلت: ناشدتُك اللهَ أن تقولَ في العَرَق.
عَرَقُ الحبيبِ مسكٌ وعنبر. عرقُ الحبيبِ سكّر. ماءُ وردٍ تضوعُ منه الفراشات. إذا شممتَهُ انتشيت. وإذا لامستَهُ ارتويت. وإذا تعشّقْتَهُ - أبدَ العمرِ - ما اكتفيْت. مشكاةٌ من حُبيباتٍ كمّثريّةِ الملمس. وقارورةٌ من لُجينٍ مُشمس. له حلاوةٌ، وله طراوة. وله - في القلبِ - منزلةٌ وحفاوة. قال فيه شيخي فلان (وكان قطبَ وقتِه): العرقُ سرٌّ من الأسرار، ومستودعٌ من الأخبار. إذا جزعتَ منه لم تكن صادقاً في العهد، وإذا لم تَهِمْ به ذَوْبَاً لم تكن حقيقا بطلبِ الود. يعرف به المحبوبُ خبيئتَكَ أتُقبِلُ أم تَنفر! (فتنبّه). يَنُمُّ عن توتّرِهِ وقلقِهِ، وضيقِهِ وفَرَقِه. فبادرْ إليه إذا اجتمع. وتحسّسْهُ إذا التَمع. انهلْهُ بشفتي كفِّك رشفةً رشفة. ومرّرْ أصابعَكَ في لجّتِهِ بلينٍ وخفّة. الحقَ الحقَ أقولُ لكم: طوبى لمن قبّلَ يدا جرى في أوديتها العرق. اهـ
هامش: لأن صلف القدماء وبذاءة المحدثين لم يستهوياه، لأن الجرب الأيديولوجي وبهلوانية الأكاديميين لم يستميلاه، ظل رجاء النقاش قامة مغايرة في ساحة الأدب العربي. كان جادا وكان حميما. ميّز النص الجيد وأقبل عليه مفجّرا دلالاته الوردية، ولم يفتش بين سطوره (كغيره) عن لغم ينسفه من الأساس، فنجح في إقامة جسر من حُبٍّ بين النص والمتلقي، وقت أن انشغل الآخرون ببناء حائط سميك بين طرفي العملية الإبداعية. |