Sunday, March 09, 2008,01:55
عرق

مفتتح: كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي مغسله. هذا ما ورثناه عن شيوخنا كابرا عن كابر.

منصتاً كنتُ قبالتَه. جلستُ كما يليق بمريد. حدّثَني ثم حدّثَني حتى روِيت. وما أن روِيتُ حتى عاودني الظما. صمتَ فأمعنتُ فيه النظر. كم غيّرتك السنون يا شيخي! وكم وخطَ البياضُ رأسَك! رأيتُه محزونا فشاغبتُه مُسرّيا:

- هل خانتك امرأةٌ؟
- قالَ: بل الدنيا.

قلتُ: خبِرتُكَ في الطريقةِ عددَ سنين، فلم أعهدْك كاسفَ البالِ إلا وأبهجَكَ حديثُ المحبوب. قال: ألم أحدّثْك البارحةَ بأمرِ الأصابع؟! قلت: ناشدتُك اللهَ أن تقولَ في العَرَق.


فصل في العرق

عَرَقُ الحبيبِ مسكٌ وعنبر. عرقُ الحبيبِ سكّر. ماءُ وردٍ تضوعُ منه الفراشات. إذا شممتَهُ انتشيت. وإذا لامستَهُ ارتويت. وإذا تعشّقْتَهُ - أبدَ العمرِ - ما اكتفيْت. مشكاةٌ من حُبيباتٍ كمّثريّةِ الملمس. وقارورةٌ من لُجينٍ مُشمس. له حلاوةٌ، وله طراوة. وله - في القلبِ - منزلةٌ وحفاوة. قال فيه شيخي فلان (وكان قطبَ وقتِه): العرقُ سرٌّ من الأسرار، ومستودعٌ من الأخبار. إذا جزعتَ منه لم تكن صادقاً في العهد، وإذا لم تَهِمْ به ذَوْبَاً لم تكن حقيقا بطلبِ الود. يعرف به المحبوبُ خبيئتَكَ أتُقبِلُ أم تَنفر! (فتنبّه). يَنُمُّ عن توتّرِهِ وقلقِهِ، وضيقِهِ وفَرَقِه. فبادرْ إليه إذا اجتمع. وتحسّسْهُ إذا التَمع. انهلْهُ بشفتي كفِّك رشفةً رشفة. ومرّرْ أصابعَكَ في لجّتِهِ بلينٍ وخفّة. الحقَ الحقَ أقولُ لكم: طوبى لمن قبّلَ يدا جرى في أوديتها العرق. اهـ


هامش: لأن صلف القدماء وبذاءة المحدثين لم يستهوياه، لأن الجرب الأيديولوجي وبهلوانية الأكاديميين لم يستميلاه، ظل رجاء النقاش قامة مغايرة في ساحة الأدب العربي. كان جادا وكان حميما. ميّز النص الجيد وأقبل عليه مفجّرا دلالاته الوردية، ولم يفتش بين سطوره (كغيره) عن لغم ينسفه من الأساس، فنجح في إقامة جسر من حُبٍّ بين النص والمتلقي، وقت أن انشغل الآخرون ببناء حائط سميك بين طرفي العملية الإبداعية.

إذا ابتسم لك الحظ فعرفت أحدا من كُتّابنا الأشاوس الأحاسن الأحامد، فأغلب الظن أنك ستنصدم لحجم الفارق بين إبداعه وشخصه. قليلون من تتفق سيرتهم وكتبهم. يحيى حقي الرقيق كصوفي .. صلاح عبد الصبور المُرّ كوجودي .. بهاء طاهر الحيي كعذراء .. رجاء النقاش العذب كحياة .. وقليل غيرهم. هؤلاء الذين بغيابهم تظهر ندوب القلب. رحم الله رجاء النقاش.

 
Posted by Muhammad | Permalink |


2 Comments:


  • At Monday, March 10, 2008, Blogger تــسنيـم

    أتفق مع شيخك فيما حدثك به عما لعرق المحبوب من حفاوة لدى المحب

    وصدق حين قال إن جزعتَ منه لم تكن صادقاً في العهد، و إذا لم تَهِمْ به ذَوْبَاً لم تكن حقيقا بطلبِ الود. يعرف به المحبوبُ خبيئتَك أتُقبِلُ أم تَنفر!


    صدق

    صدق

    صدق



    مودتـــــــــي

     
  • At Tuesday, March 18, 2008, Blogger Muhammad

    تسنيم

    تكرارك "صدق" كذا مرة فكرني بـ (سألتها) بتاعة كاظم
    :)
    ابقي اسمعيها

    متفقين تماما على صدق الرجل
    فالمريد يرى المحبوبَ طفلاً لا شيء فيه - حتى ما هو أكثر من العرق - قد يسبب النفور

    دامت لي إطلالتك الناضجة

    سلام

     

Post a Comment

~ back home