Thursday, September 19, 2013,22:55
فى الحادية والثلاثين - الخامسة
واحدٌ من الأيام التى لا تطلب فيها الموت، بل تود لو لم توجد من الأصل؛ وكأن الموت ليس كافيا لمحو ثقل الذاكرة. أستمع إلى نصيحة عبد الصبور فلا أبحر فى الذاكرة، لكنها تظل هناك على أية حال، رازحة فوق الظهر والكتفين، تؤدى عملها بإتقان تام دون حاجة إلى إرادة الإبحار. كل لحظة مزيد من الثقل، تتكدس اللحظات فتغرسك فى الأرض، مهما بالغت فى تشتيت الانتباه.

الجو حار وخانق ورطب، النوم مستعص كامرأة متمردة، والتبغ يضفى لمسته الأخيرة على لزوجة اللوحة، فيثقل الرأس بما لا يُطاق. ميرسول فى "الغريب" لألبير كامو لا يقول شيئا فى الدفاع عن نفسه ضد تهمة القتل سوى الشمس، كانت الشمس هى السبب، وفى جنازة أمه، لا يضايقه غير المسيرة الطويلة والشمس اللافحة والطريق المترب. انتهى ألبير كامو إلى القول بعبثية الحياة، وشاركه فى تنويعات النغمة مواطناه مالرو وسارتر. الكوجيتو الديكارتى "أنا أفكر، إذًا أنا موجود" يستحيل إلى "الوجود غير مفهوم، ومع ذلك فأنا موجود". هيجل (البيضة الألمانية) يبالغ فى عقلنة العالم، وينصب نفسه – بالديالكتيك – على عرش الفلسفة التى تكتشف – على يديه – المطلق، من الفكرة فى ذاتها إلى الفكرة فى ذاتها ولذاتها. كان كانط أكثر تواضعا من هذا الطاووس.

السؤال الفلسفى الشهير: لماذا كان هناك وجود ولم يكن هناك عدم؟ والإجابة؟ ركامات من الخراء بعضها فوق بعض. هل قلت من قبل إننى أقدر الفلسفة؟ أعتذر لكم! يبدو ذلك لى – الآن – إطلاقيا أكثر مما ينبغى؛ ليس كل الفلسفات. نحن محشوون قشا، والفلاسفة محشوون بالخراء. شخصيا، أفضل هشاشة القش، وإن كان للخراء الفلسفى – أعترف – جاذبيته.

ترهقنى العائلة بالحديث عن حسابات المستقبل، والقائدُ العام يعيث فسادا فى الأمكنة. هل يعرف هؤلاء أننا مثقلون بما فيه الكفاية؟ يحاول الصوفية إيجاد مخرج من هذا الكمين؛ يمكن لبساتين الورد أن تنمو فى الصدور المهدمة! والشر الذى فى الملكوت؟ يجيب الفلاسفة واللاهوتيون بإجابات لا تخلو من المنطق، لكن الغزالىّ فى منقذه يحدثنا عما اطمأنت إليه نفسه، لا عما اطمأن إليه عقله. خطاب العقل لا يكفى، وربما لذلك تطالب الأديان بالإيمان لا بالفهم التام. لكى نفهم، لابد أن نؤمن – هكذا يقرر أوغسطين، ويضيف كيركجارد – إلى هذا التراث – مفهوم الوثبة.

إن كان منزلتى فى الحب عندكمو/ما قد بلغت، فقد ضيعت أيامى. هل كان على ابن الفارض أن يكتب عن ضياع الأيام على هذا النحو بالغ الأسى؟ ولماذا يعالج الصوفيةُ الأسى بالأسى؟! فى زمن بعيد، جلس امرؤ القيس جلسة مشابهة، وطالب الليل الطويل – الذى أرخى سدوله بأنواع الهموم – أن ينجلىَ بصبح، لكنه عاد فسدّ على نفسه – وعلينا – منافذ الخلاص؛ فـ "ما الإصباحُ منكَ بأمثلِ"، وكَحَلٍّ لِهَمٍّ وجودىٍّ مشابه، اقترح طرفةُ "فدعنى أبادرها بما ملكت يدى".

وأنا لا أكتب لكم، بل أكتب إلى ذاك البعيد فى المكان، ذاك البعيد فى الزمان، الذى ستحمله الريح السوّاحة إلىّ، فيصادف كلماتى، ويتماهى وحيرتى، وقد يجد عندى إجابة عذبه سؤالُها، رغم إنى لا أجيد الإجابات!
 
Posted by Muhammad | Permalink |


2 Comments:


Post a Comment

~ back home