Monday, September 30, 2013,03:37
محاولة فى: قواعد شافاق
ربما سيكون مجحفا أن نحكم برداءة "قواعد العشق الأربعون" لإليف شافاق، لكنه سيكون مجحفا – بالمثل – أن نضفى عليها من صفات الروعة ما لا تستحق. الرواية جيدة؛ لا أكثر من ذلك، ولا أقل. وقد يكون من الحكمة أن ننوه – ابتداءً – إلى إمكان الخلطِ ممكنِ الوقوعِ بين نجاح العمل فى أن يكون روائيا، ونجاحه فى أن يكون صوفيا.

سيكون ذلك مخيبا للآمال، لكننى لا أجد بُدّا من تقريره على هذا النحو؛ إن واحدا من الأسباب الرئيسة التى تشد الرواية لأسفل، من حيث كان يُفترض له – على مستوى التوقع – أن يفعل العكس تماما، هو الشخصية المحورية للرواية داخل الرواية، شمس تبريز. للكاتبة – فيما يبدو – نوعٌ من الخبرة "المعرفية" بالتصوف، لكنها تبدو كخبرة الشاعر السورىّ على أحمد سعيد (أدونيس)، الذى نقّب فى التراث – بتأثيرٍ من نزوعاته السيريالية –؛ بحثا عن ثراءٍ مشابه، ليحطّ على (على لا فى) التجربة الصوفية، مستلهما عبارتها وقاموسها، غير أنه يُخفق – طبقا لبعض الباحثين – فى تقديم تجربة صوفية حقيقية تتسم بالأصالة. ولست أحسب أننا سنجاوز الحد لو اتهمنا تجربة شافاق بما اتُهم به أدونيس، صح ذلك فى حقه أو لم يصح.

كنت قد كتبت إن "الفصول التى تأتى على لسان شمس تبريز هى أضعف ما فى الرواية؛ ففى هذه الفصول، تبدو الكاتبة وكأنها لا تدرى ما تفعل بكل هذه المادة الصوفية التى بين يديها، كفنان تشكيلىّ يملك وفرة من الألوان على باليتته، وبدلا من أن يكون حكيما فى معرفة أين يضع ألوانه فى اللوحة وبأية مقادير، نراه دائما ما يُفْرط فى استخدامها، فيتضح ما حقه الغموض، ويَبرز من لا مكان ما يحتاج إلى تمهيد"، ثم عدت – بعد شىء من النظر – فاكتشفت أن الكاتبة لا تملك عمق المادة الصوفية؛ إنها تحدثنا عن الحب والمهمشين، لكن ذلك ليس حكرا على التصوف وحده، ومقارنةُ القواعد الأربعين للتبريزى، بوصفها خلاصة خبرته فى السلوك، بخلاصات غيره من المتصوفة، كحِكَم ابن عطاء، ومواقف النفرى، وأشعار الحلاج... إلخ، لن تصب – بحال – فى صالح التجربة التبريزية كما تعرِض لها شافاق، والتى تفتقد إلى حرارة الدم الصوفىّ الذى يبعث الحياة فى الكلمات. وقد يُدفع بأن ذلك من قبيل إلزام الكاتبة بما لا يلزم، وقد يكون ذلك صحيحا بالفعل، لكن العجزَ عن التماهى مع النفَس الصوفىّ، أو مع روح التصوف، أو مع معالجة التجربة 'من داخل' لا 'من خارج'، مما لا يمكن غفرانه لكاتبٍ يبدو طامحا إلى جعل عمله الأدبى مُعمّدا بماء التصوف، فأقصى ما حققته شافاق هو ما كان يمكن لمصلحٍ اجتماعىٍّ أن يحققه، لو كانت له معرفة بالموضوعات الصوفية الشائعة – كالحب؛ إنه الفارق الكبير بين التجربة الشخصانية العينية، وبين القراءة عن مثل هذه التجربة ومماسّتها من خارج، أو بعبارة شمس نفسه، إنه الفارق بين أن تعرف وأن ترى.

من لا مكان، تبزغ إحالاتُ شمس المستمرة إلى قواعده الأربعين، وكأن المخاطَب – أيا مَن كان – يعرف بها معرفة مسبقة. وليست القواعد وحدها ما يُولد بلا مبرر مقنع من السرد، بل ينطبق ذلك – بالمثل – على كثير من عباراته الصوفية وحكاياه؛ إن رغبة الكاتبة فى تعريفنا بالتصوف (نزوع تعليمى) أكبرُ – فيما يبدو – من رغبتها فى مقاربة مادتها جماليا، وإذ تسقط جماليا، يسقط منها كل شىء.

يظل للعمل – رغم ذلك – قيمته ونقاط قوته التى تفلح إلى حد كبير فى موازنة المآخذ، خصوصا مع تسامق الرواية – مقارنةً بذى قبل – مع فصولها الأخيرة البديعة (وإن أمكننا تفهمُ قارىءٍ يصف نهاية عزيز بالمبتذلة). من ذلك: التراسلات التى تقيمها الكاتبة بين الأزمنة/الأمكنة المتباعدة، والتوازيات التى تعقدها بين الشخوص/الأبطال (أبطال الرواية وأبطال الرواية داخل الرواية).. إلخ، لكن واحدةً من أكثر النقاط المهمة واللافتة هى ما يمكننى تسميته "ديمقراطية" الرواية؛ إذ نعرف عن الشخوص تلقيا مباشرا عن ألسنتهم، وليس عن لسان الراوية العالم بكل شىء (The Omniscient Narrator)؛ فنستمع إلى الدرويش، والعالِم، والسكران، والبغىّ، والمتعصب، مما يتيح لنا قدرا أكبر من القرب والتفهم، وهو ما يصب فى المجرى العام لما نحسبه رسالةَ الرواية، وإن توقفَتْ بعضُ الفصول على لسان مختلف الشخوص – برغم هذا التكنيك الروائى – عن أن تكون نوافذنا عليهم، حين جعلتِ الكاتبةُ منها – الشخوص – مجردَ مرايا تعكس الشخصية الرئيسة، شمس، أو برولوجات تعلق على الحدث، أو تمهد له.

كان للقواعد أن تكون أفضلَ مما هى، لو جاءت أقل تعمّدا فى رغبتها المحمومة فى الظهور كرواية صوفية؛ إذ أصابها ذلك بالافتعال، وبالأخص على صعيد محورها التبريزىّ. كان للقواعد أن تكون أفضلَ مما هى، لو قنعتْ بأن تكون روايةً وحسب.
 
Posted by Muhammad | Permalink |


11 Comments:


Post a Comment

~ back home