Thursday, June 13, 2013,11:46
انسراب
لا شىء يهم. لا شىء أبدا يهم. صلع فى منتصف الرأس، وبياض يجتاح الفودين، وقلب بالإحباطات مثقل. هذا هو ما أبقته السنوات منك. حتى هذه المرتمية جوارك لم يتبق منها شىء. لم تعد مريمَ القديمة التى أقضّت مضجعك وأطارت النوم من عينيك. لم تعد مريمَ التى فتنت نصف طلاب الجامعة والتف حولها النصف الآخر، فقط لتختارك أنت – أنت وحدك – من بينهم. راح ذلك الجزء السحرى من روحها، والذى أجبر الكل فى يوم بعيد على الانشداه والخضوع. راح مثلما راح كل شىء: المبدأ، والحلم، وسنوات العمر. لكنْ لا شىء يهم. لا شىء أبدا يهم.

وقعت عليها عينى أول مرة فى ذلك المؤتمر الذى نظمه الطلبة اليساريون. لم تكن أجمل الحاضرات، ولكنها كانت أكثرهن حياة وحضورا وتألقا. كان شعرها المرفوع فى تحفز، وكأنها على وشك خوض معركة مصيرية، بالغ السواد وبالغ الرقة. كان مشدودا من الأمام إلى الخلف بتُوكة على شكل فراشة تتيح له بَعد مسافة من الأسْر شيئا من حرية الحركة، وقد أصبح كذيل الحصان. همس لى صاحبى يومها بالتضاد الذى يؤكد معنى الجمال ويوضحه بين حلكة شعر مريم وعاجيّة عنقها الطويل، فارتبكت. كان بصرى مسمرا عليها منذ أول المؤتمر، وكنت أكره أن يلاحظ ذلك أحد. بدأت الفعاليات وتناوب المنظمون شرح أهداف اجتماعهم الوطنى كما أسموه حتى أمسكت مريم بالميكروفون فساد الصمت. تطلعنا فى لحظة سرمدية إلى هذا الكيان الأنثوى المنتصب أمامنا مملكةً من عاج ومرمر. بنطال أسود يترنح بين الضيق والاتساع، وقميص أبيض يحجب بالكاد ما تحته من خيراتها الأنثوية، وقد برز نهداها المستديران كقوسى نصر. لم أنتبه إلا وصاحبى نفسه يهمس لى "صاحبتك مش هتجيبها لبر"، ففهمت أن لها تاريخا فى العمل السياسى، ثم أدركت وقد استجمعت شتات ذهنى أنها تلقى قصيدة تعارض فيها السياسات الساداتية.

ارتبطت مريم عندى منذ ذلك اليوم بالوضوح. كل شىء فيها كان أبيض أو كان أسود. لم تغير جلدها حين تغيرَتِ "الظروف المرحلية" كما فعل الآخرون، وكما فعلتُ أنا نفسى. لم تركب الموجة ولم تتنقل بين درجات سلم الطيف لتنعم كالآخرين بخصوبة قوس قزح وتنوع الألوان ونسبية الحقائق. ظلت بيضاء – أو سوداء – حتى أقصاها الجميع، وحتى صرنا فى الدرك الأسفل من نار الواقع. تحيرتُ كثيرا متى سقط منها جزؤها السحرى، وتحيرتُ أكثر كيف سمحتْ لسنوات الفقر والمهانة أن تسلبها ذلك الجزء. لم تتنازل مريم، ولكنها بدت كمن باع القضية. الشىء الذى لم أفلح فى سماحها عليه قط.

لكنْ أى فائدة من لعبتك الأثيرة فى استحضار الذكريات! تذكر كما شئت، فلا شىء يعود كما كان. لا شىء يعود أبدا كما كان. شىء واحد هو المؤكد: صلع فى منتصف الرأس، وبياض يجتاح الفودين، وقلب بالإحباطات مثقل. حتى هذه المرتمية جوارك لم تعد مريمَ القديمة التى أقضّت مضجعك وأطارت النوم من عينيك. لكنْ لا شىء يهم. لا شىء أبدا يهم.
 
Posted by Muhammad | Permalink |


3 Comments:


  • At Thursday, June 13, 2013, Blogger shaimaa samir

    محمد
    هناك قضايا عندما تباع... نكسب
    ونكسب انفسنا على وجه الخصوص
    وانا _ادعى_ من يرون الحياة بمنظار الابيض والاسود
    يرون الحقيقة كل الحقيقة

    سلمت من الاحباطات

     
  • At Thursday, June 13, 2013, Blogger Muhammad

    رضوى :)

     
  • At Thursday, June 13, 2013, Blogger Muhammad

    لا أدرى يا شيماء. يبدو أننى لن أتفق معك. ربما كان ذلك أريح، لكنه ليس كسبا للنفس. نموت - فى الحياة - بقدر ما نبيع من قضايا. نبيع أنفسنا بقدر ما نبيع من قضايا

    واسلمى

     

Post a Comment

~ back home