Wednesday, March 13, 2013,00:04
Irreversible - أبى
هناك ضربٌ من الألم يستطيع الإنسانُ أن يقهره، فهو ألمٌ لا يُحتّمه الوجود، بل ينبعُ من تعنّتِ البشريةِ والنظمِ الاجتماعيةِ الظالمة. لكنْ تبقى بقيةٌ من معاناةٍ فرديةٍ محتومةٍ ليس لها دواء وليس منها مهرب، تفرضها حقيقةُ الموت. إن هذه المعاناةَ تعطى الحياةَ بعدَها المأساوى، أو قل هى المحيطُ المأساوىُّ الذى تسبحُ فيه الحياة – الكاتب الاشتراكى الألمانى إرنست توللر.

*****

كثيرا ما نتصورُ الذاتَ وكأنها كيانٌ مكتملٌ "جوانىٌّ" ينزع إلى مركزه الذى فى الداخل .. كجزيرةٍ منعزلةٍ تتماس والماءَ/العالمَ الذى يحوطها عند الأطراف، محتفظةً باستقلالها وتفرّدِها اللذين يميزانها عن الآخر/الموضوع. وربما صح ذلك لتصوير الجزء الأكثر ذاتية/شخصانية من الذات (إنْ وُجد)، إلا أنه يصعب تمييزُ هذا الجزء – على وجه التحديد – عن غيره من الأجزاء التى تشكل امتدادَها فى الآخرين والعالم. وبعبارة أخرى: ذواتنا ممتدةٌ فى الخارج، حتى إنها لَتعبرُ التخومَ المتوهمةَ التى تحيط بذوات الآخرين.

وولوج الآخرين/الأحبةِ من بوابة الموت إلى العالم الآخر يشعرنا بفقد جزءٍ "حقيقىٍّ" من ذواتنا. أقول "حقيقيا"؛ لأننى لست أقصد إلى التعبير عن هذا الفقد على نحو مجازىّ، بل على نحو أكثر اتصافا بالحرفية؛ فموت الأحبة موتٌ لنا .. موتٌ يصيب أحدَ أجزائنا بكل ما تعنيه الكلمة. ولأن موتَ الأحبةِ متكررٌ وحادثٌ بوفرة؛ فنحن دائموا فقدِ ذواتنا، ودائموا التوزعِ بين أجزاء الذات التى لا تزال فى هذا العالم، وتلك التى عبرت النهرَ إلى الشاطىء الآخر، الذى تتراكم عليه أجزاؤنا – العزيزةُ – المفقودةُ للموت.

تنزع الذاتُ الموزّعةُ بين العالَمَين إلى التكامل وإعادةِ لَمِّ الشمل، ولما كانت الحركةُ دائبةً فى اتجاهٍ واحد: من الـ "هنا" إلى الـ "هناك"، دون أملٍ فى العودةِ المقطوعِ باستحالتها، كأبشع ما تكون الاستحالة .. لما كان ذلك كذلك، فإننا نصل – حتمًا – إلى النقطة التى نبدأ معها فى اشتياقِ الرحيل؛ رغبةً فى لقاء الغائبين/الأحبة، وتوقًا إلى عودة الوحدةِ التى شطرها الموت .. وحدةِ الذاتِ التى لا تعرف الطمأنينةَ ما عرفت التشظى والانشطار.

لو كان لى أن أُعَرِّفَ النسيان، لما قصرتُ تعريفَه على "عدم التذكر"، بل لكنتُ أكثر ربطا بينه وبين "الألفة"؛ ألفةُ الأشياء نسيانٌ لها. ونحن لا نعبُر التجاربَ العصيبةَ بعدم تذكرها، بل بإلفنا لها. ما من أحدٍ لا يعرف أن الموتَ هو المصيرُ المحتومُ الذى لا فرارَ منه، غير أن طولَ إلفِنا لهذه الحقيقة قد أفرغها من المعنى. ونحن لا ننسى أجزاءنا المفقودةَ للموت/الأحبةَ بصيرورتنا إلى عدم التذكر، بل بفغرِ أفواهنا – فى البدء – غير مصدقين، حتى يتتابع الزمنُ فى رحلته، فتكون الألفة، وحين نفيق من وقع الصدمة، فنبدأ فى إدراك ما يعنيه رحيلُهم، تكون الألفةُ قد تكفلتْ بالجرح، فنعبُر التجربة. إننا نعبُر التجربةَ بوعى مخدّر، وخدرُه الصدمةُ (المفضيةُ إلى عدم التصديق)، ثم الألفة. يقول عبد المعطى حجازى: هذا أوانُ البكاءِ على الراحلين ... غير أن الزمانَ مضى ... والذين افتقدناهمو حين ماتوا ... ألِفْناهمو ميتين.

*****

أتذكر – الآن – ما كان من أمر عمر إثر وفاةِ النبىّ. لقد كان موقفُه إنسانيا تماما. أصابته الصدمةُ بما يشبه ما أشرتُ إليه – آنفا – من عدم التصديق، بعد أن حُجبَ عن ذهنه الإدراكُ "الحقيقىُّ" للواقعة. وقف عمر يقول: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات. ووالله، ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات.

لكن النبىّ كان قد مات. وكان ذلك أكثرَ اتضاحا فى ذهن ابن أبى قحافة منه فى ذهنِ ابن الخطاب. غير أن معنى الخروجِ الذى تعقبُه عودةٌ، والذى أشار إليه الفاروقُ، كان قد دهمنى إثر موتِ أبى. تشوشَ الإدراكُ فاستوعبتُ الواقعةَ وكأن أبى قد خرجَ لقضاءِ حاجة، ثم ستكون عودةٌ عن قريب (أو بعيد). [لم أتخلص من أثرِ ذلك حتى الآن].

دخل الصِّدِّيقُ على عائشة، فقبّل نبيه وبكى، ثم خرج، ولما تشهّد أقبل الناس إليه، وتركوا عمر. قال أبو بكر: من كان منكم يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حى لا يموت. ثم تلا قوله تعالى "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين" – آل عمران.

أصابت كلماتُ أبى بكر بؤرةَ الإدراك من عمر. يقول أميرُ المؤمنين: والله، ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعرفت أنه الحق، فعقرت حتى ما تقلنى رجلاى، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبى صلى الله عليه وسلم قد مات. أقول: أصابت كلماتُ أبى بكر بؤرةَ الإدراك من عمر، ومحتْ غشاوةَ عدمِ التصديقِ التى أحدثتها الصدمة، لتتركَه وحيدا فى مواجهةِ الحقيقةِ إذ تتكشف للوعى على هذا النحو. حينئذ، لم تقله رجلاه.
 
Posted by Muhammad | Permalink |


2 Comments:


  • At Friday, March 29, 2013, Blogger نهى جمال

    تعود النسيان كتعود موتهم

    الفكرة نفسها حقيقية لدرجة خارج التطبيق !

    بس هي صح :)

     
  • At Friday, March 29, 2013, Blogger Muhammad

    لا أظن أن التطبيق يأتى بصورة إرادية. نحن مجهزون - سلفا - بميكانيزمات دفاعية تعيننا على عبور تجارب قاسية كثيرة. ربما هى غريزة البقاء يا سيدتى الجميلة :)

     

Post a Comment

~ back home