Sunday, March 10, 2013,10:09
أبى - سريالية
نبتت فى عينىّ البارحة سبعُ زهراتٍ بنفسجية، أكلتْهن سبعُ ورداتٍ بيض .. سبعُ زهراتٍ من فُلٍّ أبيض، وورقاتُ برسيمٍ من الحقل الذى بجوار مسجدِ الزاوية. أنظر عبر الحقول وأرى التوتةَ والترعة. أشتاق العبورَ إلى أماكن الكبار التى رادها أخى الأكبر، وأبى يحذرنى من السقوطِ فى الماء.

فى الميدان الذى احتلته نافورةٌ يسكنها البومُ أكوامٌ من قشٍ أصفر فاقعٌ لونُه. أتمرغُ فى كوماتِ القشِّ كحمارٍ يستحم فى بركةِ تراب، فتشتكى أمى اتساخَ الملابسِ التى ارتديتُها منذ ساعات. وصوتُ الغسالةِ العاديةِ يدفىء نومى فى الحجرةِ الصغيرةِ ذاتِ الشباك.

الإزعاجُ الحميمُ لباجور السادسة صباحا فى الشتاءات المدرسية. أصابعُ البطاطسِ المحمرة تتأوه فى غليانِ الزيت، و "فانتاستيكا" تتماوج فى دخانِ الصالةِ عبر الأثير. حذائى مثقلٌ بطينِ الطريق، وصوتى يصّعّدُ بالقرآن فى الإذاعة المدرسية، بينما يبكى لتلاوتى "محمد عثمان".

قطعةُ الخشبِ المتدليةُ بحبلين متينين من تعريشة السطوح .. أرجوحةُ الفقر. والدراجةُ القديمةُ التى احْتَلْنا لإعادتها للحياة. أُبدِّلُ فى فرحةٍ ويتبعنى أخى الأكبر فى الشوارع العارية من الأسفلت. وأختى فى "تاييرها" البيج قمرٌ لا أشاركُه ملامحَه. تصحبنى إلى "أم بشرى" التى تضع على الحائط رفا مُدرّجا كالسُّلم، وصورةَ الفتى الحزين الذى يتبولُ فى العراء، أو يكشفُ قليلا عن إليتيه البريئتين.

شَجُّ الرأس فى زاويةِ حائطِ الدرسِ القديم. سيلانُ الدم، وملعقةُ البُنِّ التى تكتمُ الجرحَ ولا تكتمُ الأنين. وفى بيت صديقةِ أمى أختبىء و "أحمد" فى مكمننا الأنيسِ كالرحم، حيث لا تطالنا لسعاتُ الشمسِ وسيرورةُ الأيام.

زِىُّ العيدِ الفائتِ للعيدِ الجديد، ودراجةُ أبى التى لا يُسمحُ لى بها فى غيرِ الأعياد. مسدساتُ "الحَبَشِ"، وصاحبى الذى يتعقبنى لاهثا؛ لأن أباه الصولَ لا يملك دراجةً كأبى، و "قمر، أكبر، أنطونيو" على شاشةِ الثانية، وجرابُ "أميتاب" لا يخلو من الحِيَل.

السلالمُ التى تذرعها صعودا وهبوطا قريبتى القادمةُ من الريف. تشتبكُ أيدينا على جسرِ البلدة ونحن نغنى للعروسة والعريس. أخوالى يلعبون الكُرة، وفى المساء تنبح الكلابُ وتقطع علىّ الطريقَ إلى دكانِ الحلوى الذى يرقد فى وداعةٍ أمام الجميزةِ القديمة. وشجرةُ الغابِ العتيقةُ عند مدخلِ الدارِ ترحب فى صلابةٍ بالوافدين الراحلين.

تكعيبةُ العنبِ المتداخلةُ أمام بيت عمتى، و "عماد" يصحبنى إلى نادى السينما لمشاهدةِ أفلامِ الغربِ الأمريكى. أجفلُ لحباتِ الذرةِ التى يلقيها الممثلُ ناحيةَ الكاميرا. وأدخرُ قطعةَ الـ "سامبا" لقريبتى التى تملك اللِعَب. أخذَتِ السامبا لكنها لم تسمح لى بإدارةِ الطائرة.

النحلةُ التى جادتْ بحياتها لتلسعنى بذلك الشىءِ الأسود. تتقدُ النارُ فى ذراعى حتى تفركَها جدتى وتُخرجَ الشىء. تعطينى تفاحةً فى الخفاء. آكلُها فأدخل الجنةَ الممتدةَ من خلفِ الدارِ المبنيةِ باللَبِنِ حتى البحر. ترمقنى الجاموسةُ حزينةُ العينين فى ترقب، وأنا أمرُّ فى حذرٍ خشيةَ رأسِها النطّاح.

رجفاتُ جسدِ أبى الباكى لفقدانِ صغرى أختىّ إلى الموت. أصحو فى الظهيرةِ بعد انتهاء مراسمِ الدفن. أجهلُ الطريقَ إلى قبرها المندرس، وبصرى شاخصٌ – وأنا على المصطبةِ – صوبَ أشجارِ الموزِ التى يسكنها الذئبُ والجان. يترقرق الماءُ فى الأناية فأفرحُ بالسيولةِ والخرير. و "محمد رضا" يحذر "عبدَ السلام" من خطورةِ البلهارسيا، فأخشى غمرَ ساقىّ فى الماءِ الذى يحملُ البيض.

بقلظُ الطفولىُّ الذى أنتظره فى السادسةِ من مساءاتِ الخميس. وماما نجوى بشعرها المصففِ كالرجال. يستعرض بابا ماجد الطيبُ رسوماتِ الأصدقاء، وفى الفصل يبزُّنا "حازم" فى الرسمِ والتلوين. يغضب الأستاذ "ناجى" لسخريتى من طريقة "عمرو" المفتعلةِ فى إلقاءِ الشعر. وقل أنا أمشى فيسبقنى المسير. أخطو كخطوةِ نسمةٍ فوق الحرير. لكننى لا أدرى شكلا للهدف. ياللأسف! أضحك لسِنتمنتالية الأداء. وعلى السُّلمِ العريضِ أغنى فى قميصى الأبيض للعروبةِ والوطن.

الدِّيَكَةُ الروميّةُ على سطحِ بيتِ خالتى. أقول كُرْكُرْكُرْ، فتتجاوبُ معى كُرْكُرْكُرْ كرجعِ الصدى. تنقرنى فى زِيى الأحمر، وأنا ممسكٌ بالمقشةِ أطاردُ الديكَ الصيّاح على سطحنا حتى تدمى قدماه. هدّدتُه بإعادةِ الكَرّةِ رغم الندم. والأرانبُ الطيبةُ مستسلمةٌ فى حِجرى فى وداعة. أعدُّ شواربَها حتى تموتَ بالحُب، وتصير الواقعةُ مَعيرةً بين أبوىّ وإخوتى.

تبوُّلٌ لا إرادىٌّ بعد سنِّ المدرسة. وكلمةٌ نابيةٌ أجهلُ ما تعنيه فأحشرها فى محاكاةٍ لاهيةٍ لأغنيةٍ ذائعة. تسألنى أختى عن المعنى، ويصفعنى أخى. فى الليل يرجونى أن أبيتَ بجانبه، فأهرب إلى أختى التى تحكى لى الحواديت التى لا تكتمل.

نبتت فى قلبى البارحة سبعُ ورداتٍ بيض، أكلتْهن سبعُ زهراتٍ بنفسجية. وأبى يسقطُ من التعريشةِ على الأرض، فنضحكُ، حتى يعاتبَنا بالنظر. ومن شباك عمتى المطلِّ على الأخضر، أرى شواهدَ القبورِ عند أطرافِ الحقل. هناك، حيث يرقدُ جدى، وحيث سيرقدُ بعد سنواتٍ بعيداتٍ أبى.
 
Posted by Muhammad | Permalink |


2 Comments:


Post a Comment

~ back home