Friday, April 15, 2011,09:03
عندما أوغل السندباد .. وعاد

أدخنة التبغ تعبق كل ركن من أركان الغرفة محكمة الإغلاق . تتصاعد الحلقات فى أشكال تهويمية كحلم منتفخ البطن . تمر تسع لحظات فتضع حملها تذكرات طفولية من الزمن الذى كان .

طفل فى الحادية عشرة يجلس مباشرة أمام اللوحة الخضراء . ينهمك مدرس اللغة العربية - على طريقته - فى تفصيل ما خفى من أجزاء لم تخبرها العقول الصغيرة . يرتحل غربا إلى بلاد المغرب العربى فى عكس اتجاه ابن بطوطة وصولا إلى جبال الأطلس . يقوم عن كرسيه الخشبى ويشير صوب خريطة بلاد العرب التى أبهرتنا لحظة وقوع أعيننا عليها لأول مرة . كانت بلاد العرب فى تلك الأيام أعلى السبورة قبل أن تأخذ مكانها الطبيعى الممتد من المحيط إلى الخليج . يشير الأستاذ عبد السلام إلى جغرافية جبال الأطلس بينما يشرد صاحبنا فى جغرافيته حتى حدود السماء . يعود من شروده غير المبرر فيسأل كنابغة يجاهد أن يستوعب فى معارفه أقصى ما يستطيع - يسأل عن موقع تلك الجبال . ينظر المدرس مدهوشا وقد انتفخ غضبا دون أن يجيب . يحضر جريدة النخل التى ألفتها أيادينا الغضة ويضربنى بها أربع ضربات مؤلمات تركت آثارها فى الكفين .. وفى التكوين .

أنفخ الأنفاس فأرى الطفل ذاته فى الخامسة جوار نافذة روضة الأطفال . يحين موعد الانصراف فيلقى حقيبته من الشباك المجاور ليسارع إلى التقاطها من الباب . يخرج إلى الشارع الذى تغيرت ملامحه عن ذلك الزمن البعيد فيندهش لاختفاء الحقيبة فى تلك الثوانى المعدودات . أصبحت الحادثة الدالة على ذكاء مفرط معيرة بين أفراد العائلة الذين يذكرونها حتى الآن ، وبعد مرور أكثر من عشرين سنة ما زال يغزونى - من حين لحين - نفس السؤال : كيف اختفت الحقيبة؟!

ينجرف السندباد فى تيار الزمان بعض سنوات حتى تحط السفينة فى المرحلة الإعدادية . تستوقفه مدرسة الموسيقى وتسأله عما يعنيه قولنا "الموسيقى لغة عالمية" رغم أنه لم يقل ذلك من قبل ولم يعرف بوجود من يقول هذا القول العجاب . ينتصب واقفا قبالتها وينظر تماما فى وجهها الشاب . كان أقل بذاءة من أن يحدق ثدييها المكورين أمامه فضلا عن مباغتة السؤال . لمحت الزغب النابت فوق شفتها العليا فتساءلت فى نفسى لماذا تسألنى هذه الآنسة ذات الشارب؟ ثم كيف لهذا الشارب أن يظهر أصلا فى وجهها الأنثوى؟ لم أتمالك نفسى المراهقة فضحكت . سألتنى عن سبب ضحكى فلم أجرؤ على إخبارها بأنه الشارب . سكت فوبختنى واتهمتنى بقلة الحياء ، وحين ابتعدتْ قليلا تماديت فى ضحكى النزق .

فى كل مرة يسألنى مدرس التاريخ أقف حائرا لا أدرى شيئا عن الجواب . يقسم - رغم ذلك - أننى سأحصل على الدرجة النهائية فى اختبار آخر العام . ينفرط عقد الأيام وصولا إلى الموعد المرتقب . أحصل على الدرجة النهائية أو أقل بنصف درجة فأعجب كيف آمن بى الرجل أكثر مما آمنت بنفسى . بعد عامين يموت بينما نحن على أعتاب الجامعة ، لتتمخض عنه حلقات دخان اللفافات - بعد سنوات - بطيبته وعدساته الطبية وعينيه الزرقاوين .

والد صديق الإعدادية هو نفسه مدرس الرياضيات فى الثانوية . تنقطع الصداقة بينى وبين الابن ليحل مكانها ما يشبه الصداقة بينى وبين الأب . يعيرنى كتابين فى التصوف ويذكرنى بردهما كلما لقينى . أؤكد له - حد القسم - ردهما بعد انتهائى من قراءتهما . تأخذنى الأيام فالتجنيد ، وحين أعود مدنيا أقابل واحدا من أصدقائه فأسأل عنه ، ليخبرنى الرجل أن صاحبى الذى أحب الرياضيات والتبغ حد العشق قد رحل بعد أن انهار قلبه فلم يعد يحتمل مواصلة حمل صخرة سيزيف . كيف لى الآن أن أبر بقسمى وأرد الكتابين يا أستاذ عبد الحميد؟

أطالعنى فى المرآة بعد وصلة التدخين . بدأ الشعر فى التساقط واللحية كلحى الرجال . بعض شعرات بيضاء هنا وبعض شعرات بيضاء هناك . مر نصف العمر (أو أكثر) قبل أن أنتبه لهذا المرور . أعجب لوقوفى البارحة فى فناء مدرستى القديمة أحيى العلم الملون وأؤدى - برخاوة - تمارين الصباح ، ووقوفى اليوم أمام المرآة وقد اتخذت سمت الرجال ، وكأن المسافة بيننا وبين جبال الأطلس ربما ليست بالطول الذى نحسبه .

لقد خانك الوقت يا سندباد

 
Posted by Muhammad | Permalink |


3 Comments:


  • At Friday, April 15, 2011, Blogger تــسنيـم

    لقد خانك الوقت يا سندباد
    .
    .
    فاحــفر هنـا قبراً و نـــم

     
  • At Sunday, April 17, 2011, Blogger Shrouk

    جورج اليوت بيقول:
    "it is never too late to become the person you might have been"
    لم يفت الوقت بعد فالوقت لم يكن هو المشكلة من الاساس لكنها معرفة ما نريد ان نكونه هي دوما المشكلة...اتمني ان تعرف وتحقق ما تريد..


    ملحوظة:
    عندما تكتب الذكريات بمثل هذا الدفء تصل مباشرة للقلب فتدفئه لذا ف شكرا

     
  • At Saturday, April 23, 2011, Anonymous Anonymous

    This comment has been removed by the author.

     

Post a Comment

~ back home