يبـدو أن الدنيـا – كمـا يقولـون – صغيـرة ، وأن الماضـى لـن يتوقـف – مهمـا تجـاهلنـاه – عن معـاودة الظهـور .
كنت طالب طـب وكان لى رفيق يجيد الشعر . هذا الذى سبقت إشارتى إليه هنـا . ذهـب – ذات صبـاح – إلى القارة الأوربية فانقطعت بيننا الأخبار . مر علىّ زمن افقتدت فيه التوازن وضاع منى القرار ، حتى أذن الله فكانت محاولتى لتدارك بعض ما راح . خلاصة القول أننى عدت إلى استئناف الدراسة – فى حقل الأدب الإنجليزى هذه المرة – جنبا إلى جنب أداء خدمتى العسكرية . ولما كانت العربية لغتنا الأم ، فقد رأى أساتذتنا – فيما يبدو – وجوب تدريس بعض موضوعاتها لنا – طلاب الإنجليزية – حتى لا تنقطع الوشائج .
ومبلغ الغرابة فى القصة أنى وجدت ذكر صاحبى – المشار له سلفا – فى واحد من الموضوعات المقررة هذا العام ، ليكون علىّ أن أدرس اليوم شعر رفيق الأمس ، الذى عرفت من المقالة أن له ديوانا منشورا بعنوان "العصافير تنقر السور" ، وذلك فى معرض حديث الكاتب عن تطور الرؤية الوطنية فى الشعر المصرى المعاصر ، وتحديدا فى الجزء الذى يعالج فيه تيمة – يراها – مشتركة بين شعراء القرن الحادى والعشرين ، ألا وهى الاغتراب ، مُرجعا ذلك إلى وضع جيل الشباب الحالى الذى يتضح بؤسه حال مقارنته بأوضاع الشعراء السابقين على مدى القرنين المنصرمين ."فقد حيل بينه وبين الإحساس النقىّ بالوطنية المصرية ، نتيجة الأوضاع السياسية والاجتماعية المعاصرة ، تلك الأوضاع التى أفضت إلى لون من الشك فى ثبات الوطن على وضعيته المحفوظة فى نفـوس أبنائه" ، الأمـر الذى عبـر عنه المـؤرخ يونان لبيب رزق بـ "حصار المكانة" .
يقول الدكتور/ إبراهيم محمد منصور : "أما الشاعر الأخير فى منظومة شعراء القرن الحادى والعشرين ، فهو محمد دراز ، وهو حالة خاصة ، فحسبما عرّف الشاعر بنفسه فى نهاية ديوانه " العصافير تنقر السور" فهو حاصل على بكالوريوس الطب من جامعة طنطا ، ولكنه ترك مهنـة الطـب ليعمل عمـلا يـدويـا فى باريس ، مرغما لا مختارا" . وفى هذا يكتب محمد :
محمد
يا أيها البلد الذى ...
ما كنت تاركه سوى ...
أن أرغمونى العشب والخبز الحلال
والشعر لا يكفى إداما للبطون الخاويات
الطب لا يكفى إداما للبطون الخاويات
وليس يرتق جلدنا
أو يملأ الشرخ الذى قد شق خارطة الجسد
نهر من الألم الحسيرة فوقه
دلتا خراب
وألف قيد بين ساقين وسد
دراز
يوشك النداء أن يتناص وقول النبى "والله إنك لأحب بلاد الله إلى نفسى , ولولا أن قومك أخرجونى ما خرجت" فمحمد – كالنبى – فى خروجه مرغم ، رغم أن ما يطلبه من الوطن ليس بالشىء الكثير "العشب والخبز الحلال" ، لكن ما يملكه الشاعر "الشعر – الطب" لم يعد سلعة رائجة فى سوق هذا الوطن الذى اختلفت صورته وتبدلت مدلولات رموزه ، فالنيل كما يتبدى عند الكلاسيكيين – كشوقى وحافظ – ليس هو النيل كما يتبدى عند الشعراء الجدد . ويكفى أن نضع بيتا من "نشيد الجيش" – الذى كتبه فاروق جويدة – فى مقابل سطور صاحبنا دراز لتظهر فداحة التناقض .
يقول جويدة : وتنساب يا نيل حرا طليقا .. لتحكى ضفافك معنى النضال
فنيل جويدة الطليق المرتبط بالنضال والمجد ليس هو نفسه نيل دراز المكبل بلا مهرب بين ساقين – من خراب – وسد اختلفت صورته هو الآخر فلم يعد رمزا للنماء والتحدى والإرادة ، كما يؤكد اختيار الشاعر لهذه القافية الباترة "السد" معنى الانسداد وانقطاع السبل .
إن وقوع القطعة بين شقى اسمه "محمد .. دراز" لَيعكس حالة التشظى التى يعيشها الشاعر ، وأغلب الظن أن الوطن نفسه هو سبب هذه الحالة ، فهو ما يفصل بين ذاته "محمد" وذاته "دراز" .
يعود محمد إلى تأكيد معنى الاغتراب فى قصيدته "شعاع أخضر عجوز تائه" – ولست أراه يقصد بالعنوان إلا نفسه – بتصوير وطن متعال يقسو على أبنائه الذين لم يعودوا يمتلكونه ، فهو ليس وطننا ، بل وطن "الآخرين" . يقول دراز :
يا أيها الوطن المرصع بالنجوم اهبط
يا أيها الوطن المرصع بالنجوم اهبط قليلا
كى نراك
من ذا يسبح باسمك المنسىّ غير العاكفين
على ثراك
فاهبط قليلا كى نراك
لكن هذا الوطن لا ينسى كادحيه فى لحظات الأزمة ، حين يفر ناهبوه ، ولا يبقى له سوى كادحيه الذين لم يذوقوا لحم الضان . فهؤلاء يُدعون إلى الموت ، رغم أنهم لم يُدعوا – من قبل – إلى المجالسة . وليت هذه الحالة من تعالى الوطن قرينة الريادة ، بل على النقيض من ذلك ، هو وطن منسىّ بلا مكانة ، مستأسد على الأهل ، للأعداء ذَنَب .
ربما تضيق الدنيا أكثر فأكثر ، فأعود إلى لقاء دراز فى القريب . دعونا ننهى بهذا المشهد :
أشار الولد الظمآن
للرجل العارف : قطرة ماء
أوقف سيارته
قال له من خلف زجاج أسود :
ارسم وطنك
ضحك الولد قليلا .. سعل كثيرا
غاب كثيرا فى الدخان الأسود
رسم النهر ..
بلل شفتيه ..
ومات
At Tuesday, June 15, 2010, Leonardo
العصافير تنقر السور ده كان الديوان الأول ..
وفيه ديوان تانى بعنوان
لست أعصر خمرا
وثالث بعنوان كأنه الحقيقة
أما الرابع ففاز عنه بالمركز الثانى فى المسابقة الأدبية المركزية التى نظمتها الهيئة العامة للثقافة وهو بعنوان
عن بضع وريقات خضر
ودى صفحته على الفيس بوك :)
http://www.facebook.com/doctor.mazen
مع تحياتى :)
At Saturday, June 19, 2010, youssef
جميل جدا محمد
لا أعرف لماذا ذكرني بعبد المعطي حجازي
رغم نبرة الرثاء الحزينة في كلماته - تلك التي عرضتها - فانت تشعر حقا أنه جميل .. لا مجرد حزين يائس
يتسلل اليك حنينه و المه الوخاز ينقران علي أوتار الأسي داخلك ليجذبك معه في حنينه الدافئ الي الوطن المفقود
أما لغته و موسيقاه فهي ناضجة .. و لست متخصصا .. لكني أعتقد أنه حالة خاصة فعلا جديرة - رغم حداثة سنه - بأن تدرس كنموذج من نماذج شعراء الاغتراب في القرن الجديد ..
و مع أني لم أبحث عن أعماله بعد لكن أتوقع أن حسه الدافئ قادر علي التوهج خارج تيمة الاغتراب الضيقة هذه
أجمل تحياتي لك .. و لمحمد
:)
At Sunday, June 20, 2010, Muhammad
ne me dis pas que tu es draz
مش كده صح برده يا خواجة؟
كيف - بالله - عثرت علىّ يا رجل؟
وكيف - بالله - يمكن الا تعرفنى وانا نار على علم؟
:D
حتما سأتصل بك
دى الدنيا ضاقت بسرعة اوعى يا اخى
لول
كده هقول افرجها يا رب
بالمناسبة، الامتحان كان النهاردة وتخيل هو الدرس ده اللى جه
تطورت النزعة الوطنية فى الشعر العربى فى مصر منذ ايام رفاعة الطهطاوى وحتى اليوم .. اشرح ذلك مع التمثيل
اسمك طلع فى الامتحانات يا رمضان يا سكرى
عقبال المحاضر
At Sunday, June 20, 2010, Muhammad
ربما ذكرك بحجازى لأن كليهما عاشا ردحا فى باريس .. لكنك بالتوغل فى قراءة دراز ستتذكر آخرين وعلى رأسهم محمود درويش .. أو على الأقل هذا ما أزعمه
الشعر جميل لأنه رغم معالجته تيمة لا انتمائية يصدر بالأساس عن انتماء حقيقى لتراب هذا الوطن .. أو بالأحرى لِما تبقى من رماده بعد أن احترق، كما يقترح شاعر آخر
صحيح، هو قادر على التوهج فى مناطق أخرى .. وهذا سيتضح جليا حال متابعة باقى دواوينه التى أفلحتُ فى العثور على بعض قصائد منشورة - إلكترونيا - منها. وستجد أن تشكيله للقصيدة ونفَسَه الشعرى وأشياء أخرى مختلف كثيرا عن هذه الاقتباسات
لك الشكر على تعليقك الناضج والدافىء يا يوسف
ولك التحية
يااااه
الدنيا دي اوضتين وصالة فعلا
كلامه بيوجع أوي دراز
:(