Tuesday, June 08, 2010,08:37
أحلام الفارس القديم

يصدر ثالث دواوين صلاح عبد الصبور "أحلام الفارس القديم" بعد فشل تجربة زواجه الأول . والمتتبع لتجليات الحب كما تبدو فى شعر صلاح يعرف ما قد تحمله هذه التجربة من ألم لا يسهل – إن أمكن – محوه . يستهل عبد الصبور ديوانه بـ "مفتتح" يعتذر فيه لقرائه عن كثافة الحزن فى قصائد المجموعة ، ونحن وإن اعتدنا الحزن من شاعر اتخذت إحدى قصائد أولى دواوينه "الناس فى بلادى" من هذه الكلمة – الحزن – عنوانا لها ، إلا أن طبيعة الحزن فى أحلام فارسه تبدو مغايرة لطبيعته التى خبرناها معه فى ديوانيه الأولين . فالشجن الذى ينسرب فى قصيدة كـ "الشىء الحزين" من ديوانه "أقول لكم" ليس هو ما نستشعره حين يقول فى "أغنية إلى الله" : حين تصير الرغبات أمنيات/لأنها بعيدة المطال فى السما/ثم تصير الأمنيات وهما/لأنها تقنعت بالغيب والضباب/وهاجرت مع السحاب/واستوطنت أعالى الهضاب/ثم يصير الوهم أحلاما/لأنه مات ، فلا يطرق سور النفس إلا حين يظلم المساء/كأنه أشباح ميتين من أحبابنا/ثم يصير الحلم يأسا قاتما وعارضا ثقيلا/أهدابنا .. أثقل من أن ترى/وإن رأت فما يرى العميان؟/أقدامنا .. أثقل من أن تنقل الخطى/وإن خطت تشابكت ، ثم سقطنا هزأة كبهلوان .

يقسم الشاعر ديوانه إلى كراسات أربع ، تندرج أولاها تحت عنوان "من أناشيد القرار" ، والتى يهديها "إلى ن. ى." .. زوجته الأولى ، ليأتى الكراس الثانى تحت عنوان "أغنيات تائهة" ، فالثالث "من أغانى الخروج" ، لينتهى الديوان – أخيرا – بـ "صحائف من مذكرات مهمة" .

يبدأ صلاح عبد الصبور قصيدته التى يحمل الديوان عنوانها بالتمنى الذى يصبح مرادفا للحلم فى مقاطع يستهلها بصيغة "لو أننا" :

لو أننا كنا كغصنى شجرة ...
لو أننا كنا بشط البحر موجتين ...
لو أننا كنا نجيمتين جارتين ...
لو أننا كنا جناحى نورس رقيق ...

فى أربع صور كلية تطمح إلى البراءة ، مع استخدام مطرد للـ "معا" وللـ "نا" يؤكد التوحد بالمحبوب الذى لا تحصل البراءة إلا بحضوره شجرةً وموجةً ونجيمةً وجناحَ نورس . هذا الحضور الذى يعيد تشكيل مفردات تقترن بمعانى سلبية فى قصائد صلاح الأخرى . فالعرى فى قاموسه يرتبط بالوحدة والعجز والضعف . يقول : ماذا يهب العريان إلى العريان/إلا الكلمة ، إذ ما الذى يمكن للعارى/المتجرد أن يمنحه سواها؟ لكن العرى فى الحلم الأول من أحلام الفارس القديم يرتبط بالدفء والألفة : وفى الخريف نخلع الثياب نعرى بدنا/ونستحم فى الشتا يدفئنا حنونا . يقول أدونيس : "الماء أمومة" ، فتستحيل رغبة التعرى والاستحمام مع المحبوب فى المطر حنينا إلى براءة الخروج من الرحم ، وتكتسب الأشياء نقائض طبائعها : ونستحم فى الشتا يدفئنا حنونا .

لو أننا
لو أننا
لو أننا ، وآه من قسوة "لو"
يا فتنتى ، إذا افتتحنا بالمنى كلامنا
لكننا ..
وآه من قسوتها "لكننا"
لأنها تقول فى حروفها الملفوفة المشتبكة
بأننا ننكر ما خلفت الأيام فى نفوسنا
نود لو نخلعه
نود لو ننساه
نود لو نعيده لرحم الحياة


يستيقظ الشاعر الهارب إلى "لو" من قسوة "لكن" ، فيرتد حسيرا من الحلم بما له من براءة إلى الواقع بما فيه من تجريب لا يملك إزاءه سوى التمنى ، ليتضح الشق الثانى لثنائية البراءة/التجريب ، الحلم/الواقع :

لكننى يا فتنتى مجرب قعيد
على رصيف عالم يموج بالتخليط والقمامة
كون خلا من الوسامة
أكسبنى التعتيم والجهامة
حين سقطت فوقه فى مطلع الصبا


إن التعتيم والجهامة ليسا سوى نتيجة طبيعية للسقوط (بما له من ارتباطات دينية) فوق رصيف عالم يموج بالتخليط والقمامة (التجريب) ، وإذ يصرح الشاعر بزمن السقوط الذى هو مطلع الصبا فإنه يربط – ضمنا – الزمن السابق للسقوط (الطفولة) بنقائض التخليط وفقدان الوسامة (البراءة) . غير أن الشاعر لا يطيق الوقوف طويلا بأطلال الواقع فيعود مرتحلا إلى زمن البكارة ، قبل أن تستبيح بكارته الأقدام والشموس والصقيع :

قد كنت فيما فات من أيام
يا فتنتى محاربا صلبا وفارسا همام
من قبل أن تدوس فى فؤادى الأقدام
من قبل أن تجلدنى الشموس والصقيع


ليؤكد فردوسه المفقود فى البكاء :

وكنت إن بكيت هزنى البكاء

وفى الضحك :

وكنت إن ضحكت صافيا ، كأننى غدير
يفتر عن ظل النجوم وجهه الوضىء


هذا الفردوس المفقود الذى يضفى – بمقارنته بالواقع – مرارة يتفجر بها سؤال :

ماذا جرى للفارس الهمام؟

ولأن الشاعر على دراية بحجم الفارق وكم الخسارة ، فإنه لا يتردد فى إبرام هذه الصفقة :

يا من يدل خطوتى على طريق الدمعة البريئة
يا من يدل خطوتى على طريق الضحكة البريئة
لك السلام
لك السلام
أعطيك ما أعطتنى الدنيا من التجريب والمهارة
لقاء يوم واحد من البكارة


وصلاح عبد الصبور غير متفرد فى الإتيان بهذا المعنى ، إذ الأمنية قديمة قدم حنين الإنسان إلى نقائه الأول . يقول إبراهيم ناجى : آه من يأخذ عمرى كله/ويعيد الطفل والجهل القديما . ويقول الشاعر الإنجليزى وليك بليك (صاحب أغانى البراءة والتجريب) : من يبيعنى تجربتى بأغنية ، وحكمتى برقصة فى الطريق؟

إن الشاعر الذى أسمى محبوبته مسيحا صغيرا فى ديوانه الأول لَيعودُ إلى الإيمان بها خلاصا وحيدا من هذا الكمين :

لا ، ليس غير "أنت" من يعيدنى للفارس القديم
دون ثمن
دون حساب الربح والخسارة


وليس ذلك إلا لأنها قد كبرت خارج هذا الزمن وبعيدا عن رصيف هذا العالم :

صافية أراك يا حبيبتى كأنما كبرت خارج الزمن

ليظل خلاصه مرهونا بقدرتها على المنح وقدرة حبها على خلع ما خلفت الأيام فى نفسه وإعادة تدويره فى رحم الحياة :

وحينما التقينا يا حبيبتى أيقنت أننا
مفترقان
وأننى سوف أظل واقفا بلا مكان
لو لم يعدنى حبك الرقيق للطهارة


ويكون عود على بدء :

فنعرف الحب كغصنى شجرة
كنجمتين جارتين
كموجتين توأمين
مثل جناحى نورس رقيق
عندئذ لا نفترق
يضمنا معا طريق
يضمنا معا طريق

 
Posted by Muhammad | Permalink |


0 Comments:


Post a Comment

~ back home