يعلق فى الرأس بعضُ الشعر كهاجسٍ لا فرارَ منه . تطل السطور والأبيات بمناسبة وبلا مناسبة فتشكل قافيةَ الموقف . أحيانا تكون الكلمات سلوى ، وأخرى تكون تهكميةَ الوقع . من ذلك قول حجازى فى مرثيته للاعب سيرك : فى أى ليلةٍ تُرى يقبع ذلك الخطأ!
إنك لتتحير حقا فى تحديد اللحظة التى بدأ عندها كلُّ شىء فى اتخاذ طبيعة مغايرة . كيف بدأ الخطأ .. ومتى! فى أى ليلةٍ ميمونةٍ (أو غيرِ ذلك) توقفتَ عن أن تكونك! عن أن تكون "أناك" القديم!
كنتَ صبيا وكان لك من الأحلام ألف ، ومن القيم (التى تعتقدها حتى النخاع) ألفُ ألف . باغتتك الأيام فى لحظة جهنمية مباغتة فتكسَّر كلُّ حلم ، وتداعتْ كلُّ فضيلة .
يتساءل الجنوبىّ : هل أنا كنت طفلا ... أم ان الذى كان طفلا سواى! ويستطرد : أوَ كان الصبى الصغير أنا ... أم ترى كان غيرى! ... أحدق ... لكن تلك الملامح ذات العذوبة ... لا تنتمى الآن لى ... والعيون التى تترقرق بالطيبة ... الآن لا تنتمى لى ... صرت عنى غريبا ... ولم يتبق من السنوات الغريبة ... إلا صدى اسمى ...
لم يستغرق الأمرُ سوى رفسةِ فرسٍ انفضتْ معها بكارتُك وانفض معها سامرُ كلِّ شىء . شيئا فشيئا تتعاقب النصال على النصال فيرفسك حمارٌ وينطحك جَدىٌ ويرفعك على قرنيه ثور ، ولو كنت تعيسَ الحظ بقدر كاف فربما يُرديك – كأدونيس فى الأسطورة – خنزيرٌ برىّ ، غير أنك – على نقيضه – لا تعود ثانية إلى الحياة .
كل طفل يذهب إلى الفراش مساء يصحو وقد كَبُر يوما . كم ليلة ذهبتَ إلى فراشك طفلا وكم يوما أصبحت! عمرٌ كحبات الرمال منسربٌ حتى ليوشك التقدمُ فيه أن يكون جريمةً أنت أولُ من لا يغفرها لك .
وأنا أيضا كنتُ – مثلك - طفلا لا يعرف من الكون الآخذِ فى التمدد سوى بقعة منكمشة من شارعه القديم قبل أن يكسوَه الأسفلت . حفظتُ مثلك جدولَ الضرب الصغير الذى ينتهى بمضاعفة الاثنى عشر اثنتى عشرة مرة ، وأجدتُ الأبجدية . أحاطتنى بيئةٌ للدين فيها مكانةٌ فوعت ذاكرتى من كتاب الله ما تيسّر ثم قصَّرتُ الثيابَ وأرخيتُ العمامة . كان كل شىء واضحا فى تلك الأيام فلم يتعذر تمييزُ الصواب من الخطأ على الصغير الذى كنتُه . الآن إذ أكلتُ الثمرةَ المحرمةَ واقترفتُ خطيئةَ الكِبَر لم يعد يسعفنى جدولُ الضرب الصغير (ولا الكبير أيضا) فى إجراء حسابات الحياة المعقدة . راوغتنى الأبجديةُ فتعلمتُ الاستعارةَ والتوريةَ والمجازَ لتصير كلماتى مائعةً ذات معنيين إن أخفق أحدهما فى إنقاذى من المشنقة .. أفلح المعنى الآخر . راحت أيام وجاءت أيام واندهستْ فيما بينها مبادىء وأحلام ، حتى لتقف الآن على عتبات كهولة الرجال وقد أعياك سؤالٌ يعلق فى الرأس كهاجسٍ لا فرارَ منه : فى أى ليلةٍ تُرى يقبع ذلك الخطأ!
اخذتني يا محمد
قدر أن نقطع الدرب من أوله .. نحن نحس و نحب و نؤمن .. ثم ندرك و نتعقل و نفهم .. و كلما اتضحت الرؤية كلما خفت الايمان .. محاولات البحث عن اجابات لن تأخذنا لمكان .. يكفي أن نستعيد حبنا القديم .. ربما أصبح لايماننا مذاق عندها
تحياتي لك