أعرفها و أعرفه
تلك التى مضت، ولم تقل له الوداع، لم تشأ
وذلك الذى على إبائه اتكأ
يجاهد الحنين يوقفه
كان الحنين يجرفه
تدهمني رائحة الموتى. تطل وجوههم اللوّامة من ذاكرة النسيان .. فتنسيني اللحظة وتريني ما أهرب منه. في تلك الأيام الصعبة حين يضربون موعدا يعلمه كلُّ أحد غيري. لا وقت للتأنق وارتداء السواد. أبغي لُقياهم في أحسن صورة: بزة سوداء، شعر مصفف، ربطة عنق، حذاء لامع. هكذا يكون الاهتمام. لكنهم يأتون دون إشارة تفيد بوصولهم القريب. يرونك عاري القدمين في لباس النوم، لتلمح في عيونهم النديانة - هناك، خلف غشاوة الدمع - نفسَ النظرة التي تعرفها جيدا كأنها السياط ... نسيتنا!
تدهمني رائحة الموتى ووجهان أحببتهما. وجهان على الأخص. لا أدري لِمَ الآن تحديدا مع نهايات الربيع! رحل الشتاء ببرودته دون أن ترحل برودة القلب. رحل الشتاء ببرودته - ورحلا معه - دون أن ترحل برودة القلب: ابن الخال .. رفيق الطفولة والصبا الأول، وتلك التي عرفتها في سنوات الجوع.
كان ياما كان أنْ كانت فتاة إنجليزية. كان ياما كان أنْ زُفت لوسيمٍ عربيّ. كان ياما كان أن أنجبا زهرةً تحمل جيناتِ الثقافتين. كان ياما كان أن وُلدت بقلب متعب. كان ياما كان أن صارت الزهرة أميرة. كان ياما كان أن أحبها ضياء. كان ياما كان أن رحلت دون وداع. كان ياما كان أن عشش الحزن في قلوب كلِّ من عرفوها .. ولا زال.
في تلك الأيام التي كنتُ فيها طالبا جامعيا، شهدتُ - كتايريزياس، ذي الثديين الأنثويين الأجعدين - قصة حب نمت بين زميلين لنا. ولسبب لا أدريه، أحببت حبهما وصليت من أجله. كان شيئا جميلا بين أكوام القبح والدمامة. تعلقتُ به كرهان أخير على إمكانية تحقق الحب - الحب الذي هو الخلاص. اعتدنا في تلك الأيام أن نتحدث عن ليلى التي تأتي بعصاها السحرية لتعبر بنا الشطَّ إلى مدن الأحياء. أحببنا في ليلى صلاح عبد الصبور (ليلى والمجنون) الأنثى أكثر مما أحببنا الرمز. ورأينا في قصة زميلينا نوعا من هذا التحقق. لكنْ لأن الليلَ الموحش يولد فيه الرعب، تعتلُّ كليماتُ الحب، فالمحبون، فالحبُّ ذاته .. لتنتهي قصة زميلينا - ككل قصة - بالفراق.
أما ضياء - فتانا الذي يكلم المساء - فقد أنبتَ الأمل القديم بكلماته عنها. قلت: قصة جديدة تصلح للرهان. قلت: ليس أمامي سوى التعلق بتلك القشة. قلت: ربما تأتي الرياح بما نشتهي هذه المرة .. من يدري!
أعرفها وأعرفه
أميرة شرقية تهوى الغناء
تهواه لا تحترفه
عرّفني بها أخوها الأكبر أحمد سيف الإسلام. كانت علاقتي به قد توطدت مع الأيام. ومع الأيام - أيضا - زادت قواسمنا المشتركة. حتى أهداني زهرته الصغيرة روان .. ذات الأم الإنجليزية والأب المصري. ومعها صرت أكثر انفتاحا، وتنبّها لأشياء اعتدت أن أغفلها. قبلها، لم أهتم بالسينما وجمالياتها. لم أركز على تراجيديات شكسبير الكبرى. لم أستمع إلى سيمفونيات بيتهوفن. لم أرغب في زيارة لندن، وستراتفورد. وعلى الأخص، لم أصادف هذا النموذجَ الإنساني الذي توافرت له أسبابُ البطَر، فازداد تواضعه وحبه وبهجته ببساطة الحياة.
عايشت لياليها ذات الحزن الثقيل الفادح حين كانت نُذُرُ النهاية تلوح - كغمام لندن - في أفقِ عقلِها المنهَك. هذا العقل الجميل الذي لم تتوقف خصوبته حتى أنشد الحادي وسارت الإبل. عايشت لياليها التي كانت تطفر فيها - كفراشة - شعورا بالغبطة. غبطة الإحساس الوجودي بكونها حيةً تذوب ثمارُ الكمثرى في فمها .. ثمارُ الكمثرى التي يحدثنا عنها نيكولاس كيدج في مدينة الملائكة نقلا عن وليمة هيمنجواي الحية. عايشت لغتها الحائرةَ بين العربية والإنجليزية، ولهوَها المفضل على شواطيء النيل، وحكيَها الطفوليّ عن أحداث اليوم، وأخيرا تديّنَها العميقَ الذي ألزمت به نفسها قُبيل النهاية.
تحت عنوان Two sides of a cliff كتبت تقول:
Which side do you pick? It doesn’t really matter. It’s still a cliff from either side. I guess I pick the one that’s higher. No matter what, you’re gonna die at the bottom - it’s a cliff. But I guess, the higher you start from, the longer you have to fall .. the longer you get to fly before it's over.
و هذا عين ما فعلته حين علمت بقرب الرحيل. سقطت طوليا في الحياة، فاقتربتْ ولامسَت. وأغلب الظن أنها عرفت ما لم نعرف، لتردد مع الجامعة حكمته:
Vanity of vanities, all is vanity. What profit has a man from all his labor in which he toils under the sun? One generation passes away, and another generation comes; But the earth abides forever. The sun also rises, and the sun goes down, and hastens to the place where it arose. The wind goes toward the south, and turns around to the north; The wind whirls about continually, and comes again on its circuit. All the rivers run into the sea, yet the sea is not full; To the place from which the rivers come, there they return again.
All things are full of labor; Man cannot express it. The eye is not satisfied with seeing, nor the ear filled with hearing. That which has been is what will be, that which is done is what will be done, and there is nothing new under the sun.
ثم كان أن انتهت إلى الخلاص الديني حلا.
أعرفها وأعرفه
لأننى كنت كثيرا ما أصادفه
على شجيرة المساء قابعا بنصف ثوب
قلت: ما الحب؟!
قال: ضهرك اللي بتتسند عليه
أعجبتني مقولته رغم ولعي بمشاكسته، فآثرتُ الصمت والابتسام. أعرف أنه غيرُه مذ مضت وتركته. أعرف أن ثوب صبره منخرقٌ رغم محاولات الترقيع المستمرة. أعرف أن حلما ظنه وشيك التحقق قد انهار. وأعرف - على الأخص - مرارة الأحلام المنهارة.
قبلها، لم يجمعني وضياء غير الخلافات الممتدة. كنا إلى النفور أقرب، وكنا نلَدُّ في الخصومة. صارت روان طرفا في المعادلة فتغير شكل الناتج. اقتربتُ أكثر من كينونته، وحاولتُ فهمها. بدا إنسانيا أكثر منه صورة ذهنية مجردة. أخبرتني عن أحلامه وآماله .. عن تجاربه وطموحاته .. عن انكساراته وانتصاراته. ليبدأ العقل في تجميع الفسيفساء التي تشكّل صورتَه الآدميةَ، التي لم ألحظها وسط ضجيج الخلاف. كنت أستشعر الرضا في نبرتها وقد أحستْ أنها حققتْ شيئا. كانت ترى أن تقريبَ كائنين بشريين، ووضعَهما في مناخٍ من المحبة عملا يستحق الرضا. وكنتُ أرضى حين تستشعر الرضا. قبلها، كنت.. وبعدها، صرت..
وقبلها، كان.. وبعدها، صار..
يلحُّ ضياء على ثيمة التغير في كتاباته عنها. روان/ليلى التي دخلت حياته فمستها بعصا سحرية. لا يستطيع - رغم رحيلها - أن يتناسى حقيقةَ أنه عرفها، وأنه أحبها، وأنها أعادت تشكيله، وأنه ممتنٌّ لذلك الطائر الأخضر الذي نقر شباكه ذات شتاء، ليصنع فارقا في حياته ثم يعود من حيث أتى - أيضا ذات شتاء. وكأنها قصة أخرى من قصص فيروز التي تستمر عاما واحدا لا أكثر.
وعندما يمشون تمشي فوق خديه الدموع
ويفلت الكلام منه .. يفلت الكلام
هل يقبل الضياء حقا بعد عام
ويبدو أن صاحبنا - الذي يكلم المساء - قد قنع من الدنيا بشباك مغلق. وأنا - محمد - كنت شاهدا - كتايريزياس، ذي الثديين الأنثويين الأجعدين - على قصة أخرى .. نمت .. وانتهت.
فلتخبريني - وقد سمعتِ القصةَ - يا أمَّ خليل. هل ينبت بعد الحبِّ الأول ورقُ القلب؟
- لا يُرجع دهر أبدا ما فات
فلتخبريني - وقد سمعتِ القصةَ - يا أمَّ خليل. ما حكمة هذا الدهر؟
- بدءٌ وختام. كلُّ الأشياء لها بدءٌ وختام
تدهمني رائحة الموتى مع نهايات الربيع. فأبكي روانَ التي ماتت، وإبراهيمَ الذي مات.
معذرة صديقتي
حكايتي حزينة الختام
لأنني حزين