آمنتُ – قَـبْلا – أن للتغيير طريقين لا ثالثَ لهما: طريقًا يعمد إلى الفرد فيعيد تشكيلَه على أسس كيفية، وطريقَ الثورة. كنتُ أكثرَ اقتناعا وميلا إلى السبيل الأول، ورغم ذلك فحين لاحت إمكانيةُ ثانيهما لم أتخلف، غير أن القناعةَ القديمةَ قد ترسختْ بعد خوض التجربة.
السياسةُ جربٌ أصابتنى حَكّـتُه حتى انتبهتْ لنفسى. أفقتُ فوجدتنى منغمسا – حتى شحمتَى الأذنين – فى اليومىِّ والعابرِ والتافهِ والخسيس. لم أصبح – بفضلها – إنسانا أفضل، بل كنتُ أتردّى على المنحدر كما يتردّى كلُّ أحدٍ فى هذا الوطن المنكوب. أظهرَتِ السياسةُ بشاعاتٍ كثيرةً ما كنا نعرف بوجودها فينا، وليس يكفى أن نلقى بمغبّتها على نظامٍ سابقٍ أو راهن؛ نحن غزاةُ مدينتنا.
وحدها أسطحُ الأشياء قد انفردتْ بتشكيل كلِّ تفاصيل المشهد. حلّ الضجيجُ، وغاب العمق. حتى أولئك الذين كنتُ أثق فى عقولهم الجميلةِ وضمائرِهم لم يعودوا أفضل حالا. سقط الجميع فى المستنقع. صار عاديّا أن تجد واحدا من رفاق الوعى القدامى وهو يروى لك أكثرَ القصص خرافيةً لا لغاية إلا لإلصاق كلِّ نقيصةٍ بالخصم. اتُّهم العقلُ النقدىُّ واستُبدل بالعمى والحماقة.
يبدو أن كل ثورة تحمل فى طياتها بذرةَ الشقاق. ثار العقاد والمازنىّ وشكرى على شوقى ومدرسته، وألّـفُوا – فى هدم الإحيائيين – كتابَهم "الديوان فى الأدب والنقد". انشغل ثلاثتُهم بهدم أسسِ الكلاسية، إلا أنهم – كما لاحظ أحدُ النقاد – لم يفلحوا فى بناءِ بديلٍ لما هدموه، ثم انشقّوا على أنفسهم إلى حد تلقيبِ شكرى – شريكِ الأمس – بـ "صنم الألاعيب". وحين عاد العقاد والمازنىّ وشكرى إلى الالتحام على هدفِ إسقاطِ نظامٍ فسد، فتجمعوا فى الميادين إخوةً يهتفون "بلادى بلادى"، حتى سقطتْ حناجرُ كثيرة ٌمخرسةً، عادوا – من جديد – فانقلبوا على أنفسهم ومزقوها كل ممزق. ومثلما اصطفّ العقاد والمازنىّ – بالأمس – فى جهة، وشكرى فى جهة، يصطفان اليوم فى جهة، وشكرى فى جهة. لكن لك – أيها القارىءُ العابرُ – أن تتذكر: بعدما فرغا من شكرى، انشقا على نفسيهما.
بدأتْ – قُبيل الثورة – موجةُ الهجرة الجماعية من "بلوجر" إلى "فيس بوك"، فرأيتها نقلةً بين وجودين، أو بين مجالين من مجالات الوجود بتعبير كيركجارد. والمجال الذى يمثله "فيس بوك" يشكلُ معالمَه اليومىُّ والعابرُ والتافهُ والسطحىُّ والمبتذل، وضد ذلك ما يشكل مجالَ "بلوجر". تحسستُُ – أيامها – مسدسى، وارتبتُ من عواقبِ هذه النقلة. ثم كان أن اندلعتْ أحداثُ يناير فهاجرتُ مع المهاجرين حتى اعتلانى نفسُ الصدأ.
كم كتابا – من تلك التى ساهمتْ فى تشكيل وعيك ووجدانِك وكينونتِك قبل الثورة – قرأتَ – أيها العابرُ – منذ يناير اللقيط الذى يدّعى نسبتَه إليه كلُّ أحد؟
انتبهتُ للجرب فعدتُ إلى هذه الذات التى طال نأيى عنها مستكشفا لما تكون. إننا نأتى ونرحل دون أن نفهم أنفسنا بدرجة كافية. حتى ما يبدو بدهيا لكل أحد أنه يعرفه عن نفسه لا نعرفه. هل يملك أيُّنا من الاطمئنان ما يُمَكِّنُ له أن يقرر عن نفسه أشياءَ من قبيل: أنانىّ أم مستعد للتضحية! متواضع أم مغزوّ بالغرور! صعب المراس أم سهل المعاشرة! وهكذا.
"اعرف نفسك". مقولة سقراط الخالدة (والمؤلمة) التى أطلقها قبل قرون. وهل يمكن أن نعرف أنفسنا وسط حمى كلِّ هذا الضجيجِ الذى صارتْ فيه الشَهادةُ بطاقةً تُلصقُ بكل أحد؟
انتهيتُ فى الأيام الماضية من كتاب "الذرة الاجتماعية" لمارك بوكانان، وهو كتاب شائق لا يسعك أن تقبله كله أو أن ترفضه كله. والشاهد من إيراده فى هذا السياق إلقاؤُه الضوءَ على ظواهر من قبيل ما نمر به الآن من جنون. يشير بوكانان إلى شهادات بعض اللاجئين ممن عانوا حربَ البوسنة كما ترِد فى تقريرٍ لبيتر ماس الصحفى بجريدة واشنطن بوست. يكتب بيتر ماس "لقد قُتلوا بأيدى أناس من الصرب، كانوا من قبل أصدقاءهم. أناس عاونوهم فى موسم الخريف السابق على جنى محاصيل حقولهم، وكانوا فى فترة المراهقة قد شاركوهم مغامراتهم وأسرارهم : تخففهم من الملابس ليغوصوا فى نهر 'درينا' فى الأيام الحارة فى الصيف ... استكشاف الدروب المظلمة مع فتيات البلدة العابثات فى الليالى. وفجأة، وفيما يبدو دون سبب تحولوا إلى قتلة".
تمنح مثلُ هذه الكتاباتِ المرءَ قدرةً على إعادة التفكير من خارج الصندوق. تطّرِحُ القوالبَ الجاهزةَ وتعيدُ التفكيرَ بمزيد من العمق. وقد لا تملك – مثلى – تجاهلَ أحدِ الشهادات التى يوردها الكاتب على لسان صبىٍّ – شارك فى أحد الاحتجاجات – عن متعة إحراق السيارات وتكسير واجهات المبانى. كل ذلك – حال مراعاته – مما يغير فى منظور رؤيتنا لأحداثنا اليومية التى توسم بالثورية، إلى الحد الذى قد يُسقط عنها هذه الهالةَ الزائفة. لسنا بالنقاء الذى نحسبه، كما تشير
صفاء أحمد. لا نحن، ولا الثورة، ولا الثوار، ولا الدوافع.
أنا واحد ممن قد يروقك – أيها العابرُ – أن تصمَهم بالتهمةِ الجاهزة: تجارةِ الدين، لو كنتَ من الدارجين على لصقها بكل حالمٍ بما نسميه "المشروع الإسلامىّ"، براجماتيا كان أو مخلصا. أومن بالخلافة، وبالتنزيل الأشملِ للشريعة، وبما تعرفه من باقى الأشياء. كلمتان للمحدّث الألبانىّ وللدكتور محمد عبد المقصود أحاول توطين نفسى على ما يثيران من اطمئنان يمحو من النفس غوائلَ التجاوزِ المُفْرِط. يقول العلّامة الألبانىّ: الطريق إلى الله طويل، ونحن نمضى فيه كالسلحفاة، وليست الغاية أن نصل لنهاية الطريق، بل أن نموت عليه. ويقرر الدكتور عبد المقصود أن شيئا لا يقع فى كونِ الله إلا بقَدَرِ الله؛ ولذلك فليس لنا سوى اتباعِ ما أُمرنا به، أما النتائج فليست لنا. والصورة الكلية الناتجة عن الكلمتين لا تدَعُ مجالا لانحرافٍ مما قد يُؤخذ – اليوم – على بعض الفاعلين الإسلاميين، ولا تدَعُ – كذلك – مجالا لقلق. بمثل هذه الكلمات، وبما قاله – منذ قرون – واحدٌ من سلف هذه الأمةِ عن العقبات التى لولاها لشككنا – واللهِ – فى الطريق، تصبح الرؤيةُ أكثرَ صفاءً ووضوحا. لكنّ مزيدا من الوضوح قد يتبدى – وهذه فترة بوحٍ ومكاشفة – حين ينظر المرءُ إلى نفسه بعين الاتهام، فيرى حالَه المغايرَ (وأىّ مغايرة) لحالِ السالكين، ثم ينتظر – يالوقاحته – أن يأتيَه – على غير استحقاقٍ – التمكين.
هل تبادرُ إلى اتهامى أيها القارىءُ العابر؟ يا شبيهى. يا أخى.