Sunday, December 30, 2012,23:19
فى الثلاثين .. أسئلة ومشاريع - السابعة
عشتُ عمرى أكثر ميلا إلى العزلة التى أقاسم فيها آدمَ بن علىّ لفافاتِ تبغى. كنتُ أنظر إليه (فيه) وأحاول فهمه، لكن هذا السبْرَ المتواصلَ لم يكن قط بالشىء السهل رغم طول العشرة والالتصاق تحت نفس الثوب. لا زلتُ أجهل من أمر آدم أكثر مما أعلم، ولا زلتُ أقف على شفا مائه محترسا من ابتلال الساق. أعرف عنه عصبيته التى يجاهد للسيطرة عليها. وقد أخبرَنى أن ذلك متطلبٌ – من العمر – أمدًا ليس بالقليل، وأن الطبع غالب. أخبرَنى – كذلك – أن أكثر الناس والمخلوقات استحالة لرؤية وجه إنسان هو ذاك الإنسان ذاته. دهشتُ لهذه الحقيقة القريبة التى يعرفها كل أحد، وأدركتُ أن كثيرا من الحقائق تقع مباشرة تحت الأنف غير أننا لا ننتبه لها لطول الإلف، فيكون هذا القرب عينه سببا للغفلة. سأعيـش وأمـوت دون أن تتـاح لى فـرصـة (فـرصـة واحـدة) لـرؤيـة وجهـى رؤيـةً مبـاشـرة. لا تكن سخيفا – أيها العابر – فتحدثنى عن المرآة!

سؤالا الصوفيةِ عن العزلة: هل تكون اجتنابا لشرور الخلق، أم تجنيبا لهم لشرورنا! وهل ينزل المرءُ إلى الناس كحلاج عبد الصبور*، أم تكون خِـرقـةُ الصوفية إيذانًا بالمجافاة التامة، فتستحيل "أجافيكم لأعرفكم" عند قديس (أقول لكم)* إلى "أجافيكم لأعرفنى"، أو بمعنى أكثر إيغالا فى التصوف "أجافيكم لأعرف الحق"؟ الحق أقول لكم كنتُ أكثر ميلا إلى ما ينتصر للذات؛ فالعزلةُ تجنبٌ لشرور الخلق، وهى جفاءٌ لا اتصال بعده.

لكننى منذ شاهدتُ "عاليًا فى السماء" لجورج كلونى، وتلك الجملة التى قالها لزوج صغرى أختيه تطن فى الأذن (والنفس). إن كل لحظات السعادة التى تسترجعها الذاكرةُ مقرونةٌ بحضرةِ آخر/آخرين. يتكرر هذا المعنى – على نحو مغاير – فى فيلم توم هانكس الأخير "أطلس السحاب" الذى شاهدته – مؤخرا – بصحبةِ آدم. تتزلزل قناعتى السارترية القديمة عن الآخر الذى هو الجحيم، وكان التصدع قد أعمل فيها آثارَه بتأثير حميميةِ حبٍّ قديم، وصداقات، وروابط عائلية وإنسانية. الاتصال ممكن. واللغةُ القادرة على إيجاده ممكنة. ليس على آدم سوى أن يجد الروحَ ممكنةَ التراكب معه، كمفتاح وقفل .. الروحَ التى تتآلف وروحَه ما أن يتعارفا.

كن أكثرَ انبساطا، وأكثرَ استعدادا للتفتح للملاقاة. لا تغلق دون القادمين كل المسام. دع بعضها علّ شعاعا ضالا ينفذ إلى الداخل، فالحياة (القاسية بما يكفى) كانت لتكون أكثرَ قسوة لولا حضور هذه الأرواح الأليفة .. عرضيةً – فى حياتك – كانت، أو دائمة. كن ممتنا لهؤلاء العَرَضيّين/العَرَضيّات؛ فربما هم رسلُ القدر الذين يبزغون لأداء مهام محددة ما كنتَ لتستطيعها بمفردك. كن ممتنا لهم مهما كان مرورهم قصيرا وخفيفا كالنسم. كن ممتنا حتى لو أداروا ظهورهم وأمعنوا فى الغياب وتنكّروا لك كأنهم ما عرفوك من قبل. كن ممتنا ولا تفكر فى رحيلهم كواحد من النصال التى تتعاقب خلف النصال (وإن كان كذلك)؛ فربما لا يعدو الأمر أن يكون نهايةَ الدور المنوط بهم .. هكذا بلا شخصنة. وكن ممتنا للدائمين وإن قَـلّوا؛ فإنهم يساعدونك على الـمُضىّ. هكذا قلتُ لآدم وقال لى. كن ممتنًا لليمامة التى تَرَكَت الحصانَ وحيدا.

* تُراجع مسرحية "مأساة الحلاج" لصلاح عبد الصبور.
* يُراجع ديوان "أقول لكم" لصلاح عبد الصبور.
 
Posted by Muhammad | Permalink | 0 comments


Tuesday, December 18, 2012,00:12
فى الثلاثين .. أسئلة ومشاريع - السادسة
الفرحة ممكنةٌ لطفل، وهى فرحة بسيطة لا تعرف التركيب. كنا صغارا، وكان لنا من الفرحات الصغيرات مائة أو يزيد. مريول قصير أزراره من الخلف، وشعر مصفف. مدرسة، وبيت، ورفاق لهو. ولا شىء سوى ذلك فى هذا العالم الفسيح.

حملتنا الشواديف من هدأة تلك الأيام التى يداولها الله بين الناس/الأطفال، لتلقى بنا فى جداول أرض الغرابة. ذلك الإلقاء الذى صاحبه السفر إلى ما يسميه عبد المعطى حجازى – فى طلليته – بـ "حزن الرجال"، وهو صنو التجريب، ونتيجةٌ منطقية لـ "فكل العمر أسفارُ".

يتفتح الوعى فلا يعود ممكنًا ألا تدركَ ما أدركْت. يتغير التموضع، ويتغير المنظور، فتتكون مفاهيم ممضة عن "الدنيا كما نعرفها"، ولا تعود الفرحة ممكنة للطفل الذى شب.

الفرحة ممكنة لطفل، وهى ضد التجريب. إنها ثنائية (بالأحرى ضدية) البراءة/التجربة كما تتبدى – مثلا – عند الشاعر الإنجليزى وليم بليك. لاحظ عنصر الشّرية الذى يظهر فى The Sick Rose من "أغانى التجربة" (والذى يذكرنا بـ "الأجدل المنهوم" عند صلاح عبد الصبور)، وهو العنصر المفتقد فى القصيدة التى تقابلها من "أغانى البراءة": The Blossom. الشىء المطّرد فى العملين كليهما إذ يُنظر إليهما سويا فى نفس الوقت.

ولما كان عدم إدراك ما تم إدراكُه متعذرا أو مستحيلا، كان أقصى ما يمكننا أن نطمح إليه فى هذا العالم هو "الغبطة" التى يسرى فيها نهر الحزن الشفيف فى عمق كل فرح ظاهر. إن مملكة المسيح – كما يخبرنا الكتاب المقدس – ليست من هذا العالم.

فى الحلقات التلفزيونية "سارة"، لمهدى يوسف تأليفا، وشيرين عادل إخراجا، تبدأ سارة (حنان ترك) مما أسماه العمل "وضع الجنين"، وهو حالة من البراءة الغفل. تطّرد الأحداثُ، فتَخبرُ سارةُ "الدنيا كما نعرفها"، وتعود – من حيث ابتدأت – إلى الانسحاب إلى الداخل .. إلى الحالة الجنينية الأولى. لكن العودة تغاير البدءَ تمام المغايرة؛ إنها عودة المجرب الذى عرف. حتى إن تلك البراءة الغفل التى شكلت نقطة الانطلاق لم تعد ممكنة. يقول صلاح عبد الصبور فى كتابه الحميم "حياتى فى الشعر": وأؤمن أن غاية الوجود هى تغلب الخير على الشر من خلال صراع طويل مرير، لكى يعود إلى براءته، التى هى ليست براءة غفلا عمياء كما كانت حين صدورها عن الله، ولكنها براءة اجتياز التجربة والخروج منها كما يخرج الذهب من النار، وقد اكتسب شكلا ونقاء".
 
Posted by Muhammad | Permalink | 2 comments


Tuesday, December 11, 2012,03:08
فى الثلاثين .. أسئلة ومشاريع - الخامسة
لو كان لى أن أتبع فى إنشاء إيمانى سَنن الفلاسفة لحذوت خطو الألمانى العظيم كانط فى المقدمة، ولانتهيت مع الدانماركى العظيم كيركجورد فى النتيجة. جاء كانط ليهدم – ضمن ما هدم – الصرح الاسكولائى الذى حاول توما الإكوينى ومن لف لفه تشييدَه فى القرون الوسطى، بتدعيم العقائد المسيحية بأسس من العقل. جاء ليخرج العقل – بصورة حاسمة – من ساحة النقاش؛ بوصفه غير قادر على الخطو خطوة واحدة فى مثل هذه المساحة – لو جاز التعبير – الميتافيزيقية. فالعقل – طبقا لكانط – محكوم بالمقولات، وهى تصورات أولانية سابقة على كل تجربة. إن العقل الكانطى لا يمكنه التعامل إلا مع الأشياء فى الزمان والمكان؛ ولذلك فإن وجود الله مما لا يمكن للعقل الخالص أن يبت فيه إيجابا أو نفيا. لم يعد للمؤمنين أن يتذرعوا بمثل هذه الحجج الاسكولائية الإكوينية، ولم يعد للملحدين – كذلك – أن يجدوا فى العقل مرفئا.

ثم تجىء "القفزة" الكيركجوردية لتقدم نوعا من الحل المؤلم. الإيمان – بطبيعته – لا معقول، وليس – فى جوهره – سوى وثبة. الإيمان مخاطرة. إن كيركجورد ليعطى للنعمة الإلهية دورا فى الإيمان، لكنه ما يلبث أن يؤكد على ضرورة استجابة الفرد بقرار حر .. بوثبة. وهى كذلك لأنها لا تستند إلى برهان أو منطق. إن من شأن تقديم البراهين أن تزيد الاقتناع، والاقتناع – كما نفهم من كيركجارد – غير الإيمان، إذ قوام طبيعة الأخير – خصوصا فى صورته المسيحية – المفارَقة. يقول: من واجب الفهم البشرى أن يفهم أن هناك أمورًا لا يمكن أن تُفهَم. حتى لتكاد هذه المقولة أن تعيد إلى الذهن مقولة القديس أوغسطين: لكى نفهم، لابد أن نؤمن.

لو كان لى أن أتبع فى إنشاء إيمانى سنن الفلاسفة لحذوت – فى المقدمة – حذو كانط، وفى النتيجة حذو كيركجورد. لكننى لا أبالى بإيمان الفلاسفة فى كافة صوره، ولست أعتقد أنه الإيمان الذى يرضاه الله الذى آمن كيركجورد أن وجودنا هو وجود أمامه. إن ما أومن به هو إيمان الرسل، وفيه أجد إجابة السؤال الذى طرحته من قبل. وإذ أقول ذلك يتبادر إلى الذهن إيمان الخليل إبراهيم، وإيمان الصدّيق أبى بكر. ربما أعود إلى ذلك فيما بعد.

على الهامش: لا أعرف دليلا قدمه أحد الفلاسفة على وجود الله أكثر خسة وانحطاطا من رِهان باسكال الذى عُرف ببرهان المقامرة، وهو برهان براجماتى كما يصفه الفيلسوف الذرائعى وليم جيمس. حتى أن ما وُجه إليه من نقودات لا يقل عنه – فى رأيى – سخفا. نسأل اللهَ الهدايةَ والتوفيق.
 
Posted by Muhammad | Permalink | 0 comments