لم أجد مبررا لإنهاء الرواية التى شرعت فى كتابتها منذ شهور، فطرحت عنى الفكرة. بدا الأمر – فى لحظة من لحظات الإشراق – سخيفا وبلا غاية. رواية! لا رسائل عندى أوجهها للعالم، والحماسة للأشياء نبذتها منذ سنوات. لم يبق مما أردته سوى تجربة لحب خائب، ودراسة أحببتها طويلا. هاتان فقط لم أتنكر لهما إلى الآن، لكنَّ ربك أعلم بالمخبوء فى جراب الأيام.
أخطأت البارحة فى العمل المكلف به ثلاثة أخطاء: وجهت خطابا لغير المكان المختص، ووجهت خطابين لنفس المكان، ثم جعلت أحدهم يوقع فى غير مكان التوقيع المخصص؛ مما كاد يتسبب فى عجز مالى. قال سيادته إننى أفتقد إلى التركيز، وسألنى باسما إن كنت أحب. شردتُ خجِلا بينما أتطلع فى أرضية الحجرة كطفل مذنب. ولولا أنه يحبنى، والعلاقة بيننا يحكمها التفاهم .. ولولا أن مثل هذه الأشياء لم يسبق لها أن حدثت على مدار ثمانية أشهر كاملة (هى مدتى معه مذ حل علينا فى يوليو الفائت)، فربما كان له معى شأن آخر.
اليوم أستسلم للنعاس فى الرابعة عصرا، فيدهمنى حلم غير مريح على الإطلاق. انتبهت على وقع طرقات على الباب، ورغم تجاهلى الطارق، إلا أنى شكرته سرا أن أيقظنى من هذا الحلم. لا يجدر بالإنسان أن يروى مناماته المزعجة؛ ولذلك أسرها فى نفسى، وأظل معكر الصفو. ما زلت معكر الصفو حتى هذه اللحظة.
هاتفت صاحبى الذى عاد لتوه فى أولى أجازات مركز التدريب. تحدثنا طويلا، وضحكنا يسيرا. صديقا العمر مثلى مجندان، وأنا أشتاقهما. كنا على ظهر الطريق عصابة من أشقياء، وكنا لا نفترق. أصابنى التجنيد، وأصابهما تكليف الأطباء، لتحملنا الشواديف من هدأة المحلة، وتلقى بنا فى جداول أرض الغرابة: أنا فى دهشور، ومحمد فى مطروح، ووائل فى أسوان، ليعود الوطن (والوطن لا يشبع) فيبتلعهما: واحدا فى فايد حيث كلية ضباط الاحتياط، والآخر ما زلنا لا نعرف أين سترسو به سفينة الترحيل.
فى العاشرة والنصف تنتابنى لحظة ضعف، فألجأ مترددا إلى الهاتف. التليفون على الطرف الآخر مغلق. أدع هاتفى، وأحمد الله إذ لم يكن عندى ما أقول فى تلك المكالمة الغريبة. أجلس وبعضَ الأصدقاء مسترسلين فى بذاءاتنا الذكورية؛ طلبا للمرح. نضحك قليلا، وحين أعود تعلو قصيدة "أبو سنة" مياهَ الذاكرة: تُرى أيذكروننا؟/أولئك الذين يفتحون فى صحرائنا/نوافذَ الربيع/أيام جدبنا/أيعرفون أننا بغيرهم بلا أحد/أيعرفون أننا لهم/أولئك الذين يبسمون فى وجوهنا/إذا أدارت الورود وجهها عن اكتئابنا/أيدركون أننا نحبهم إلى الأبد/أولئك الذين يرقدون فى الرسائل البعيدة الأمد؟
لفائف التبغ لا تنتهى، ومشاريع القراءة التى عقدت عليها العزم فى هذه الفترة متوقفة. الحب فى زمن الكوليرا، فكل الأسماء، فالأخوة كارامازوف، فاحتضار قط عجوز، فأحلام الناى. كل ذلك كان مقررا له أن ينتهى بحلول نصف مارس، لكننى - وقد أوشك فبراير (المحمل بالذكريات) على الرحيل - لم أنته - بعد - من الصفحات الأولى لماركيز، مع بعض الأصداء التى تطن بعقلى – ما زالت - لقصائد إليوت، وخصوصا بروفروك الذى يقيس حياته بملعقة قهوة.
الثانية صباحا، وما زلت أجلس للكتابة، ولفائف التبغ لا تنتهى .الحالة الآن ملائمة تماما لمعاودة القراءة فى سِفر الجامعة. عشر سنوات وأنا أعاود القراءة فى سِفر الجامعة .. فليت شِعرى متى سأقرأ نشيد الإنشاد!
الثانية صباحا، وما زلت أجلس للكتابة، ولفائف التبغ لا تنتهى، لكننى سألجأ – فيما يبدو – إلى الخيار الآخر اللذيذ .. فى هذه الليلة الشتوية الدافئة.
وكل الأبدان تجرى إلى النوم، والنوم ليس بملآن ..
تثاؤب ..
طاب مساؤكم.
تخرج علينا السيدة/ أحلام مستغانمى بكتاب يُحظر – كما تقول – بيعه للرجال وتجعل من النسيان محورا له. تستهله بعبارة "أحبيه كما لم تحب امرأة، وانسيه كما ينسى الرجال"، لتقرن – منذ أولى الصفحات – بين النسيان (الذى يتخذ طابعا غادرا فى هذه الحالة) والذكورة.
أقول: وليس هذا النسيان الهين من شيم الرجال الرجال (كما تسميهم الكاتبة نفسها)، هؤلاء الذين تدهمهم عربات التذكرات (والماضى الذى كان) أكثر مما تدهمهم عربات اللحظة الآنية! فالمرأة إذ يموت عنها الزوج تصبح – ببساطة – أرملة، أما الرجل الذى تموت عنه الزوجة فيمسى يتيما.
أقول: ولا حاجة لنا بكتاب عن النسيان والآليات الموصلة إليه، فالغاية – على مستوى التطبيق – صعب منالها، خصوصا أن المرء لا ينسى لمجرد الرغبة أو توفر النية. والأكثر من ذلك واقعية – أزعم - أن ترشدنا الكاتبة إلى طريق يوصل فى نهايته إلى القدرة على التجاوز والاستمرار رغم ندوب القلب، فيستحيل الماضى صفحةً فى كتاب ينتمى إلينا وننتمى إليه، وتجربةً مُرَّةً وإن ظلت تسكن الروح إلا أننا نبلغ على أنوارها الكاشفة مرفأ المستقبل، واعين تمام الوعى بما كان، لكنْ مع القدرة على الحياة معه كمرض لا سبيل إلى التخلص منه. أما التظاهر بأن ما كان لم يكن – فضلا عن تصديق هذه الكذبة - فأمر لا يقبل العقل (عقلى على الأقل) إمكانية حدوثه واقعيا.
تجارب الماضى المؤلمة عاهة تصيب الإنسان فلا يملك لها دفعا. ولا يمكنك أن تقول – ببساطة – لرجل أصابه العمى تناسَ عماك، كما أن الركون إلى هذا العمى وإدمانَ التفكير فيه خليق بأن يقتل المرء وهو بعد على قيد الحياة فلا يتحرك إلى الأمام شِبرا. وأفضل الحلول فى هذه الحالة أن تُعوّده الحياة مع عماه كنقطة على الطريق يمكن استئنافُ السير بعدها وليس كنقطة نهاية، ليصبح بمقدوره تجاوز العاهة/الجرح، مع وعيه التام بوجودها/وجوده. ولصعوبة ذلك، كان الرضا (المتجلى فى صورة الوئام مع الذات) من فُضليات الخصال.
تقول مستغانمى: ماذا لو جربنا الاستعداد للحب بشىء من العقل؟ لو قمنا بتقوية عضلة القلب بتمارين يومية على الصبر على من نحب. أن نقاوم السقوط فى فخاخ الذاكرة العاطفية التى فيها قصاصنا المستقبلى. أن ندخل الحب بقلب من "تيفال"، لا يعلق بجدرانه شىء من الماضى. أن نذهب إلى الحب دون جراح، دون أسى، لأننا مصفحين ضد الأوهام العاطفية. ماذا لو تعلمنا ألا نحب دفعة واحدة، وألا نعطى أنفسنا بالكامل، وأن نتعامل مع هذا الغريب لا حبيب، بل كمحتل لقلبنا وجسدنا وحواسنا، ألا يغادرنا احتمال أن يتحول اسمه الذى تنتشى لسماعه حواسنا، إلى اسم لزلزال أو إعصار يكون على يده حتفنا وهلاكنا؟
أغلب الظن أن الكاتبة قد عانت مرارات حب خائب، أو – على أقل تقدير - قد شغلها الموضوع حد الإدماء، فلم تلحظ أن الوهم بعينه هو ما تدعونا إليه، وليس ما نمارسه من "أوهام عاطفية". إذ ماذا يبقى من الحب – على الأقل كما نعرفه نحن الشرقيين – لو غلفناه بالتعقل وولجناه بعضلة قلب مقوّاة ضد اللهفة على المحبوب؟ ماذا يبقى منه لو لم نعطِ أنفسنا بالكامل دفعة واحدة فيحتلنا الحبيب ونحتله ويصير الكل واحدا؟
إن ما تدعونا أحلام مستغانمى إلى الوقوع فيه هو شىء آخر سوى الحب.
الكتاب موجه إلى النساء من بنات جنس الكاتبة. ورغم كل ما فيه من تعميمات واتهامات للرجل العربى إلا أنه لا يثير الحفيظة، فليس من الإنصاف – ليس من الإنصاف أبدا – أن نأخذ هذا الكتاب على محمل الجد.
وختاما: هلّا خرج علينا كاتب من الرجال يخبرنى عن التجاوز! فأنا – بعدى – غرّ لم أضع قدمىّ على أول الطريق!
قوموا إلى شئونكم يرحمكم الله.