Wednesday, July 03, 2013,22:56
مُفاصلة
ليستْ وطنا وما كانتْ ولن تكونَ، غيرَ أننا خادعْنا أنفسَنا كالجوعانِ يراودُهُ حلمُ الرغيف. مرتحلونَ أبدًا – كاليهودِ – فى الشتاتِ، مقيمونَ غائبونَ، وغائبونَ حاضرونَ، دوالٌ تبحثُ – أبدًا – عن دلالةٍ، والدلالةُ توشكُ – دائما – أن تكونَ، غيرَ أنها – أبدًا – لا تكون. فيكمْ ولسنا منكمْ، مهاجرونَ – كاليهودِ – مشردّونَ، لكننا لا نثيرُ شفقةَ أحدٍ، وقد علمتْنا التجاربُ ألا ننتظرَ أحدًا؛ فإن أحدًا لا يجىءُ، ولو جاءَ جاءَ مبتورَ الذراعِ لا تصلُنا يدُهُ؛ نحن المنكورون.

من مراثى اليمامة

(كلّ القتلى لهم بَكّاءونَ سوى قتلاىَ، كلّ القتلى لهم ندّابونَ سوى قتلاىَ، كلّ القتلى يلبسونَ عليهم السوادَ حدادًا ويضعون الشاراتِ سوى قتلاىَ؛ قتلاى كلابٌ ضالةٌ للمارةِ ملقاةٌ على قارعةِ الطريقِ، قتلاىَ جيفٌ لا ينتبهُ لها العابرونَ، قتلاىَ فائضونَ عن الحاجةِ حياةً وموتًا لا يريدُهم أحدٌ، قتلاىَ لا قبورَ لهم تريحُهم من عناءِ الرحلةِ، قتلاىَ لا أكفانَ لهم سوى ما قُتلوا فيهِ، قتلاىَ لا حنوطَ لهم سوى البارودِ الذى اغتالَ النقاوةَ فيهمْ، قتلاىَ تجمّعتْ عليهم القبائلُ، وأخذتْ بخناقِهم العشائرُ، نسىَ العربُ كلّ خلافٍ وما جرى بينهم من دمٍ منذُ قحطانَ وعدنانَ، وما عرفوا الوحدةَ من تشرذمٍ إلا حين همّوا بقتلاىَ، قتلاىَ مُوزّعوا الدمِ فى خسّةٍ وتواطؤٍ، وقاتلوهم يرسمونَ كفوفَ العارِ على حوائطِ النصرِ بدمِ قتلاىَ الساخنِ، قتلاىَ منصاتٌ يعتليها الرابحونَ ليراهم الجمعُ الذى ولّى عن قتلاىَ الدبرَ، قتلاىَ يعيشون غرباءَ ويموتون غُرباءَ، تضيقُ عنهم كلّ أرضٍ مُنفسحةٍ، قتلاىَ منفيونَ لا وطنَ لهم سوى ذواتِهم المنهكةِ، قتلاىَ مثخنونَ بالنِّصالِ التى تتعاقبُ خلفَ النِّصالِ من كلِّ حدبٍ وجانبٍ، لكنهم لحظةَ المفارقةِ يبتسمون فى إقبالٍ ورضا. قتلاىَ أحصنةٌ صادقةٌ ذواتُ أجنحةٍ ترفرفُ فى براحاتِ السماءِ؛ الأرضُ أضيقُ من ثقبِ الإبرةِ، وفى السماءِ للمتعبينَ متسعٌ، وللغرباءِ متسعٌ، وللمرتحلينَ متسعٌ، وللمستظلينَ بالشجرِ متسعٌ، ولمن لم يجدوا ههنا عدلا متسعٌ؛ السماءُ لقتلاىَ متسع.)

ابكوا قليلا وافرحوا كثيرًا، لكم الفرحُ ولنا ما لنا، لنا جلودُنا التى لا تشبهُ جلودَكم، لنا أعينُنا التى لا تشبهُ أعينَكم، لنا آذانـُنا التى لا تشبهُ آذانَكم، لنا أنوفُنا التى لا تشبهُ أنوفَكم، لنا أجسادُنا التى لفظتْها المدائنُ، وسكنتْها الحمائمُ، ولوّنتْها الدماءُ، لنا أفواهُنا المتشحةُ بالخرس.
 
Posted by Muhammad | Permalink | 8 comments


Tuesday, July 02, 2013,11:31
فى الحادية والثلاثين - الرابعة
كان ديموقريطس وهرقليطس فيلسوفين، عد أولهما الحالةَ البشرية مضحكة، وباطلة، فما ظهر بين الناس إلا والضحك والسخرية ملء فمه، أما هرقليطس فقد أشفق على الحالة البشرية وعطف عليها، فما انقشع الأسى عن وجهه يوما وما خلت عيناه من الدموع.

هكذا يروى صلاح عبد الصبور – نقلا عن مونتينى – فى كتابه "حياتى فى الشعر". وقد كنتُ – تأثرا برؤية الناقد الدكتور عز الدين إسماعيل لدالـيّة المعرىّ – لا أرى فارقا بين موقفى الفيلسوفين؛ إذ تمتزج الدمعةُ بالبسمةِ فى صوتٍ واحد يعلن به الوجودُ عن نفسه. يقول أبو العلاء: أبَكَتْ تلكم الحمامةُ أم غنّتْ على فرع غصنها الميّادِ، وكأن البكاء والغناء يقعان على متصلٍ يكاد طرفاه أن يدنوا إلى حال من الاتحاد، أو هما كذلك.

وفى أوقاتٍ قد يبدو الوجودُ وقد انطبع بالألم، أو السأم، أو المرارة، أو السخرية، غير أن الشعور المستمر الذى يراودنى الآن بصدده هو الأسى، فأراه أكثرها جميعا قربا من حقيقته؛ فلا هو مثيرٌ للسخرية حد الاطمئنان لهذه الرؤية، ولا هو فاجعٌ أبدا؛ إذ كل تلك أعاريض على خطه الذى يعلو ويهبط فى صيرورته التى لا تقر، أما الأسى فطابعه الأكثر التصاقا به على طول المنحنى. الوجود مؤسٍ بالذات، والأسى – كما أفهمه – وسطٌ رزينٌ بين المتطرفات، وهو دون الفجيعة. ولعل ذلك – والأمرُ مشتبهٌ علىّ – يكون جوهرَ ما أشار إليه عز الدين إسماعيل فى حديثه عن بيت المعرىّ، حين يمتزج البكاءُ بالغناء فيخفف أحدُهما غلواءَ الآخر، والعكس بالعكس، مُتَرَكِّبَيْنِ فى الأسى كمنتوجٍ هادىءٍ يوشك أن يتماهى ورؤيا التصوف.

يقول عبد الصبور: هناك شىءٌ فى نفوسنا حزين/قد يختفى ولا يبين/لكنه مكنون/شىءٌ غريبٌ غامضٌ حنون، لتثير سطورُه عن ذلك الشىءِ الحزين الحنون والشفيف – داخلى – شعورَ الأسى كما أقصده. وهو لا يثير – عندى – النقمةَ بقدر ما يثير التعاطفَ وتفهّمَ التشاركِ فى الهمِّ والمصير.

توقفتُ – مؤخرا – عند قوله تعالى "واللهُ يعلمُ وأنتمْ لا تعلمون" ودهشتُ له؛ هل ينفى اللهُ عنا – فى الآية – أصلَ العلم؟ أى إننا لا نعرف – حقا – أى شىء، وما كل ما نرزح تحته سوى أباطيل وضلالات؟ أضحك الآن للمفارقةِ بين هذا الفهمِ وبين البشريةِ التى غرّتها معرفتـُها بالذات! حتى إن هذا الهاجسَ ليراودنى المرة بعد المرة: ذات يوم، فى هذا العالم أو فى العالم الذى يليه، ستتبدّى لنا الأشياءُ على نحوٍ مغايرٍ بالكليّةِ لما اعتادتْ أن تبدوَ عليه، ستتبدّى على حقيقتها التى لم نعرفها من قبل، وسندرك – بعد كشفِ الغطاءِ – كم كنا فى الوهم. يشبه ذلك – رغم بـُعد المقارنةِ – تغيّرَ نظرتنا إلى الكون من فيزياء نيوتن (التى جعلته ميكانيكيّا) إلى الفيزياء الحديثة (التى أطاحتْ باليقين)، وشدّ ما كان الفارقُ بين النظرتين! لكنّ رؤيتَنا بعد انكشافِ الغطاءِ ستجىء أعظمَ من ذلك فى المفارقةِ بما لا يُقارن، وكأنّ غايةَ الرحلةِ التى قطعتْها/تقطعُها/ستقطعُها البشريةُ لا شىء سوى إقرارها بإقامةِ معرفتِها/كلِّ معرفتِها فى الجهل.
 
Posted by Muhammad | Permalink | 2 comments