Monday, December 07, 2009,20:11
لا تنطق الكلمة

كانت أعوام بأكملها قد مرت على لقائنا الأخير، أو هكذا شعرت، ورغم أننى التقيتها بعد ذلك مرات ومرات إلا أن وصف "لقاء" لم يكن لينطبق على هذه الاجتماعات الأخيرة. كنت أجلس قبالتها صامتا وكانت تبتسم، غير أنى لم أفلح قط فى الوصول إلى يقين قاطع بشأن إدراكها لحضورى أو مجرد رؤيتها لى. كانت الفراشة القديمة بداخلها قد فقدت كل مظهر للحياة ولم يبق فى حبيبة من أثر الفراش سوى رقته وضعف أجنحته.

قلت لحسين: شاهدت البارحة فيلما أمريكيا لتوم هانكس، وأكثر ما علق برأسى منه جملة قالها البطل مخاطبا زوجته. وضع رأسه على صدرها بينما أحاطته بذراعيها وقال: تحدث فى هذا العالم أشياء تعجبين كيف يسمح الله بحدوثها! أتعرف يا حسين: طالما عذبتنى هذه الفكرة! فكرة الشر والألم والموت فى هذا العالم. تأملت كثيرا وقرأت كثيرا، لكن عقلى ما زال عاجزا عن الفهم.
قال حسين وقد بدت فى عينيه غشاوة من دمع: أنا أيضا أتعذب وإن كنت قد حسمت هذه الأشياء مع نفسى منذ سنين.
- ما يعذبك إذًا؟
- يعذبنى عذابكم. تساؤلاتكم الظمأى إلى جواب يبل الريق. ترى جمر الحياة المتوهج وهو يندثر شيئا فشيئا تحت رماد هذه الأسئلة حتى ليوشك أن يخمد تماما. عرفت من يعددون مساوىء الحياة كهاملت. من ظنوا أن بإمكانهم حل المشكلة بطعنة خنجر لا أكثر. لكن هل خلقنا الله للقتل؟! والسؤال الأهم: هل خلقنا الله للموت؟ صحيح أن كل نهر يجرى إلى البحر، لكن هذا البحر ليس نهاية المطاف، بل الأبدية والسرمدية، حيث لا شر ولا ألم ولا موت. أتعرف أين تكمن المشكلة على وجه التحديد؟ المشكلة فى البحث عن الإجابة فى غير سبيل الوصول.
كان عقلى مشوشا تماما فلم أنتبه لما قاله بعد ذلك. كنت بحاجة إلى أن أعرف ما يعرفه حسين الذى حدست دوائى عنده فتقربت إليه وصحبته. قلت فلأكن مريدا لهذا الشيخ الذى يصغرنى لعل بعض كلماته تعود بى إلى السكينة والاتزان. ورغم نفوره من الأطفال الدنيويين كما كان يحلو له أن يسمينا نحن البشر فقد أفلحت بعد محاولات ومناوشات استغرقت وقتا فى اكتساب صداقته. عرف أننى حَمَلٌ ضل عن القطيع، فخاف أن يتلقفنى ذئب جائع. لكن عقلى كان مشوشا تماما يرتد صوب زمان آخر ومكان آخر فلم أنتبه لما قال.

اعتدت وحبيبة أن نمشى كثيرا ونثرثر كثيرا. استكشفنا شوارع مدينتنا الصغيرة معا كما استكشفنا كل شىء آخر معا. سمعنا وقع ارتطام أقدامنا على طرقها الأسفلتية، وأثرنا غبار طرقها الترابية. صعدنا كباريها وجسنا من خلال أنفاقها. حتى حواريها القديمة التى لم نعرف بوجودها وصلناها مصادفة فى نزهاتنا معا. وفى ذلك اليوم مررنا كعادتنا بذلك الحى من المدينة الذى تكثر فيه الكنائس. توقفت حبيبة فجأة وأشارت إلى رسم ملون يحتل جزءا كبيرا من جدار إحداها، وكان مرتفعا بما يسمح للمارين برؤيته.
قالت: هل تعرف هذا الرجل الذى فى الجدارية؟
قلت فى اندهاش: طبعا أعرفه.
نظرت مثلها فى اتجاه الرسم فرأيته. كان عاريا إلا مما يستر سوءته، مصلوبا تنغرس المسامير فى لحمه وتبقيه معلقا على الكتلة الخشبية، تميل رأسه قليلا ناحية اليمين، ويكلل رأسه تاج من شوك وكأن الفقراء قد نصبوه عليهم ملكا فلم يسعفهم الفقر بغير هذا التاج. طال وقوفنا وحبيبة شاردة فى التأمل. قلت: كأنك ترينها لأول مرة!
التفتت ناحيتى بنفس الشرود الذى اعتدته منها فى تلك الأيام وقالت: فى العالم أديان كثيرة ومذاهب كثيرة، لكننى لاحظت شيئا مشتركا فى كل المذاهب التى قرأت عنها أو احتككت بأحد معتنقيها. الكل ينتظر المخلص أو المنتظر كما نسميه نحن. ذلك الذى سيملأ الدنيا عدلا وقسطا بعد أن ملئت جورا وظلما. قد يختلفون فى تعيينه، لكن الجميع ينتظرونه حلما فردوسيا بالخلاص.
- لماذا تحدثينى الآن عن هذه الأشياء؟
- أبدا. كل ما فى الأمر أننى لم أعد أطيق. لم يعد بمقدورى الاستمرار. سرت طويلا فى طريق الآلام، وآن لى أن أصعد الجلجثة. أنت أيضا أنهكك الصليب. أكاد أرى كتفيك المجروحين.
قلت : تعذبيننى بكلماتك التى لا أفهمها. ويعذبنى أكثر أننى أقف عاجزا لا أدرى ماذا أفعل. لماذا لم أعد أفهمك يا حبيبة؟ ولماذا لم تعودى حبيبة القديمة التى أعرفها عن ظهر قلب؟
أشاحت بوجهها وعادت تتأمل الرجل المصلوب، وسمعتها تتمتم: فات الأوان.

- لحظت شرودك فصمت. لم أشأ أن أقطع عليك استرسال الذكريات وقد بدوت غارقا فيه كالغارق فى بحر. حمدا لله على سلامتك يا أوديسيوس!
ابتسم كلانا وامتدت لحظة صمت قطعها حسين قائلا: أى حمل ثقيل تحمله على كتفيك يا صاحبى؟ لن يستطيع قلبك الصمود طويلا أمام موجات هذا الحزن. وعموما، لن أسألك عما بك حتى تأتينى راغبا فى البوح.
- أحمل صليبا على كتفىّ يا حسين. يوما ما سأخبرك بكل شيء.
عادت غشاوة الدمع إلى الظهور فأطرق وبدأ ينقر الأرض بأطراف أصابعه. كنا نعرف أن حسين "دموعه قريبة" فلم نكن نندهش أو نعلق حين تحدث مثل هذه الأشياء، لكننى فوجئت بالسؤال ينفلت منى دون تفكير: لماذا تبكى كثيرا يا حسين؟
رفع رأسه مبتسما ابتسامته الهادئة وقد سقطت دمعات على لحيته وأجاب: من يعرف يحزن يا صاحبى.
لكننى لما سألته وماذا عرف! .. عاد إلى البكاء.

ـــــــــــــــــــــــــــ

عن رواية لم تكتمل بعد.

 
Posted by Muhammad | Permalink |


2 Comments:


Post a Comment

~ back home