مفتتح: كلُّ طريقٍ أنتِ في آخره .. أمشيه
ثم عاد كلُّ شيء كما كان: طلعت حرب إلى البسمة، والزمالك إلى الهدوءِ المقترنِ بالرقة، والنيلُ إلى لمعتهِ الفرِحة بانعكاسِ وجهينا على صفحةِ مائه. للهِ درّكِ يا إيزيس.
كنا مَشَّاءَيْن وكنا ثَرثارَيْن. امتدتْ أمامنا شوارعُ القاهرةِ في لهفةٍ فطويناها في لهفة. تشابكتِ الأكفُّ وتعانقتِ الضحكاتُ - رغم هطولِ الدمع - فرسمنا دوائرَ فوسفوريةً من قَوس قُزح.
تعجبَتْ كيف طاوعني قلبي في النسيان فتعجبْتُ - كَمِنَّة - كيف انتهى بي الأمرُ على هذه الدرجةِ من القساوة. قلتُ لنفسي: ما أظلمَ الرجالَ إذ تُعميهم حماقةُ الغضب فيجترحون الوعودَ (وكانوا قد أكدوها) والأيمانَ (وكانوا قد أغلظوها) ومواثيقَ الحبِّ (وكانوا قد وقّعوها وبصموها وختموها).
عدتُ إلى إثباتِ ما محوتُ فاتسع قلبُها لوعود جديدةٍ وأيمان جديدةٍ ومواثيقَ جديدةٍ، وكأن اتفاقا ضمنيا قد انعقد في هذه اللحظةِ - بين شراييننا التي أنهكها طولُ التباعدِ - على نسيان ما كان .. كأنه - قَطّ - ما كان.
فلاش باك
وفي البدءِ كان كوبري الجامعة
كان شتاءٌ وكان ليل. كان طفلان يسيران متحازيَيْن في طريق العودة، وكان أن تمهلا فوق كوبري الجامعة. كان أن نظر في الماءِ المعتم فأشرق قلبُهُ بالحب وأدرك أنه أوانُ الخفقان. كان هناك وكانت إلى جواره.
ثم صارا متداخلَيْن متعانقَيْن .. بعيدين قريبين .. صغيرين كبيرين .. وحيدين كثيرين .. سعيدين حزينين .. مضيئين مريبين .. سمائين وكهفين .. ضحوكين عبوسين .. ونجمين طليقين .. وطيرين حبيسين .. مساءين نهارين .. ربيعين جميلين .. وصيفين شتاءين .. عشيقين حنونين .. يذوبان صفائين .. يموتان حياتين .. يعيشان فنائين .. ينامان كظلين .. يقومان كحُلمين .. يروحان كَلَيلين .. يجيئان كصبحين .. ما صلحا بعد لقائهما ليكونا اثنين.
عرفا الجريَ تحت المطر والتعرُّقَ في وقدةِ الظهيرة، وعرفتهما كباري العاصمةِ وشوارعُها وعمالُ مقاهيها. عرفهما باعةُ الفيشار والأيس كريم .. وأغلبُ الظن أن سكانَ المهندسين لا زالوا يتضاحكون لذلك اليوم المشهود.
ذكرى
فاكره يوم ما فرّجت عليكي المهندسين كلها عشان باكو لبان؟ صوتي كان مجلجل ولا عرابي وهو بيردح للخديو. كل ما افتكر المعيلة اللي كنت فيها اليوم ده اموت م الضحك. طب والله حاجة تضحك
الآن إذ يلوح فراقُنا القسريُّ لأيام متطاولاتٍ يعود كلُّ شيءٍ إلى الذاكرةِ فأندمُ لأوقاتٍ ابتعدتها طوعا. أعترف - في لحظة صدق - أن ما احتملتِهِ من حماقاتي في شهور يفوق ما احتملتْهُ محبوبةُ نزارَ من حماقاتِهِ في عشرةِ أعوام. أعترف وأشهد أن لا امرأةً... إلا أنت.
فاصل غنائي: ولو خيّروني لكررتُ حبَّكِ للمرة الثانية
بين حزن مُثلم الأطرافِ لفراق طفلتي التي رحلتْ، وأملٍ في غدٍ يجمعنا فيه عشٌّ واحد، ومخاوفَ كثيرةٍ عن المستقبل (وكنت قبلك متصعلكا لا أقيم للدنيا وزنا) أقفُ على عتباتِ خدمتي العسكرية. أيامٌ معدوداتٌ أدلف بعدها إلى عالم آخرَ لا صاحبَ لي فيه سوى صورتِكِ التي أحملها كبطاقةِ الهوية التي تعلن انتسابي إليكِ .. سوى صورتِكِ والقمر. ستأتي شهورٌ وتروحُ شهور، وتطلعُ أقمارٌ وتغيبُ أقمار، فاذكريني حين يكتمل - في السماء - بدرًا وحدّقي فيه، ففي صحراءَ ما سأجلس محدقًا فيه وأرى وجهَكِ البسّام على البُعد، ليضمَّنا ضوؤه (الحنونُ كصدركِ) حبيبين لا يعرفان المسافة.
قلت: ربما تعلقنا الشيءَ فتمنينا ألا نفقدَه .. وربما زاد به تعلقُنا فتمنينا لو لم نكن قابلناه.
لكنني (وليس الكذبُ من شيم الراحلين) أمتنُّ للحياةِ التي جمعتنا بعد أن بلغتُ شيئا من حكمة السادسة و العشرين. أمتنُّ لها وإن جاءتْ رياحُ النهايةِ بغير ما اشتهتْ سفائننا. أمتنُّ وأصلي للربِّ القادر أن يتحقق حُلمي الأوحدُ يا نجمي الأوحد.
أشياءُ كثيرةٌ سأفتقدها في منفاي الجديدِ الذي آملُ أن يصهرني في بوتقةِ الصلابة. أشياءُ تتعلق بي وبك .. وبتفاصيلنا الصغيرةِ التي لا يشاركنا فيها دخيل. سأفتقد - على الأخصِّ - تلك النظرةَ المعجزيّةَ التي لم أعرفها في العمر غيرَ مرة .. تلك النظرةَ التي أشعرتْني - لوهلةٍ - أنك امرأتي وأنني رجلُك، فحدقتُ منشدهًا في خشوع غريب وكأنني أدركت لحظتها أن أنثى سواكِ لن تكون أمًّا لأطفالي ولي، وأن عينين سوى عينيكِ لن تغمراني بمثل هذا الحنان، وأن صدرًا سوى صدركِ لن يتسع لانتفاضاتي لحظةَ البكاء .. تلك النظرةَ التي حامتْ كروح فراشةٍ في "بينوس التحرير". سأفتقدها وسأفتقد أحجارَ الشيشة - التي دخنتُها انتظارًا - في السيدةِ عائشة.
حجرُ الشيشةِ في السيدةِ عائشةَ ليس كحجر الشيشةِ في مكان آخر. أنفاسُهُ مُعبقةٌ بتاريخ الحي وكأنه قُدَّ من قلعةِ صلاح الدين. لم تأتِ عليه الحداثةُ كما أتتْ على أحجار شيشة "وسط البلد" التي رُصَّتْ لإرضاء المثقفين والغزاةِ السائحين. لا تحول بينه وبين فمكَ المباسمُ، ولا يعوقه عن الانسياب إلى رئتيكَ عيبٌ تقنيٌّ في "اللَّي" أو "الرَّفّاص". رِدةٌ بالزمن إلى أيام "الماشة"، وسحائبُ من دخانٍ "تعدل الطاسة".
ماذا أقول لك يا فاطمةُ .. يا غرامي الحزين؟
يا خلاصًا في عالم شديدِ الوطأة .. يا طعنةً أدمتِ القلبَ وداوتْه .. يا حُلمًا لم أملك غيرَه .. يا صبحًا أنتظرُ إطلالتَه .. يا واحةً طال بحثي عنها .. يا شقيقةَ روحي!
خمسةٌ وأربعونَ يوما أقضيها في مركز التدريب، ثم تكون - بمشيئةِ الله - العودة. ألقاكم (وألقاكِ) بخير حال.
خاتمة: صوتك حبيبتي هو بابي على الحياة
لو يتقفل .. يبقى حلم العمر تاه