مر بى فى تلك الأمسية، وكانت عادتُه أن يمر بى فى الأماسى. امتد حوارٌ بدأ بالسياسىّ وعرّج وعرّج حتى بلغ حديث الصباح والمساء. رأى فى الحلقات تتبعًا لتطور المجتمع المصرىّ فى تاريخه المعاصر، واستدل بالتغيرات الفكرية والاجتماعية والثورات والأحداث. قلتُ لكنّ ذلك كله غيرُ مقصود لذاته، بل حبات ينتظمها نفسُ العقد الذى هو مرمَى العمل وغايةُ تكريساته. قلت إن القديم وما استجد، والثورةَ والخنوع، والباشا والمراكيبى .. الكل يجرى إلى نفس البحر، والبحر ليس بملآن. نافحتُ استنادًا إلى بناء رواية محفوظ ذاتها. استدللتُ بأغنيتَى سيد حجاب المصاحبتين. وألححتُ فى الإشارة إلى المصير عينِهِ الذى تنتهى إليه كل الشخوص، والذى يعمد محفوظ/محسن زايد/أحمد صقر إلى تأكيده مع كل شخصية فى فرديتها. والبحر ليس بملآن. أسهبتُ فى الإشارة إلى بعض الجزئيات، وخصَصتُ مشهد عبلة كامل وهى تجلس على حفرة يدلف منها الأحياء إلى باطن الأرض - خصَصْتُه ببعض تفصيل. كان تركيزُه على الاجتماعىّ نابعًا من طبيعة تركيبته العقلية، وكان تركيزى على الوجودىّ نابعًا من تركيبتى المغايرة. بدا صاحبى مقتنعا. اقتنع حتى الثمالة. اقتنع حتى الموت.
أثبَتَ فكرتى بما لا يدع مجالا للتفنيد والدحض. شكّل - بموته - امتدادًا لتكريسات محفوظ فى روايته، وراح فى نفس البحر. والبحرُ ليس بملآن.
نسفَ موتُه وهمًا اعتنقتُه طويلا - حتى صدقتُه - تجاه هذا الشىء. حسبتُه سيمهلنى على فراشه قليلا لأستعرض الشريطَ الكاملَ لما فات، فأرانى طفلا وصبيا وفتىً وشابا وكهلا .. إلى ما شاء الله للعمر أن يمتد. حسبتُه سيمهلنى على فراشه قليلا لأدمع دمعاتِ حبٍ وحنينٍ وألمٍ ومرارةٍ وارتياحٍ وندمٍ .. ورجاء.
اقترب طائرُه - حينًا - إلى الحد الذى سمح معه بنظرة كاشفةٍ بعض الشىء، وحلّق - أحيانًا - فى الجوار فسمعتُ خفقَ جناحيه، وشممتُ ريحَه، وكدتُ ألمحُ ريشَه القتّال. ولاصقتُه فى تلك المساءاتِ التى أصحو فى هويد لياليها فزعًا لا شىء فى الرأس غيره وغير ما يكون بعده. لكننى رغم كل هذه التقديمات لم أعِ عبث وهمى القديم، ورغم كل هذه المقاربات لم أدرك - يقينًا - أنه لا يطرق - قبل انقضاضِهِ - الباب.