الحنينُ الحنين .. الحنينُ نقرُ طيورٍ دهمتْها الوحشةُ وغلبَها الاشتياقُ فلم تملكْ لهما دفعا. حان موسمُ هجرتِها فرنَتْ بعينَي القلبِ إلى موطنِها الذي في الشمال. أهاجَتْ الذكرى مكامنَ طفولتِها وصباها الأولِ فأبتْ أجنحتُها إلا أن تعود.
جوقة: ودونَكَ يا شمالُ سبعُ صحارى وسبعةُ أبحر.
الحنينُ الحنين .. الحنينُ نقرُ طيورٍ في جدارِ القلب.
الحنينُ الحنين .. الحنينُ وقعُ خطى إبلٍ أنشدَها الحادي فأشجاها نايُهُ المحزون. أعيتْها المسافاتُ والأسفارُ فداعبتْها – على البعدِ – خضرةُ الواحات. آلمها طولُ الخببِ فطلبتْ ظلا تأوي إليه وتبركُ فيه. أحالتْ البيداءُ بحثَها عبثًا فأيقنتْ ألا راحةَ لها وسطَ اصفرارِ الرمال، وعادتْ تغذُّ المسير.
جوقة: ودونَكِ يا خضرةَ الواحاتِ ألفُ ليلٍ وألفُ نهار.
الحنينُ الحنين .. الحنينُ وقعُ خطى إبلٍ على جدارِ القلب.
الحنينُ الحنين .. الحنينُ نتحُ أوراقٍ تطاولتْ سوقُها فأبعدتْها عن الجذور. جاءها العصيرُ فارتشفتْه لعل فيه خبرًا عن الأصول. عاد الخريفُ فسقطتْ إيذانًا بلقائها الثاني مع الأرضِ/الرحم. وقعتْ – وقد أصابها الموتُ – فلم تستشعر لحظةَ الوصول.
جوقة: ودونَكِ يا أرضُ موتي مع الخريف.
الحنينُ الحنين .. الحنينُ نتحُ أوراقٍ بكتْ شوقًا فبلَّتْ جدارَ القلب.
أعطنا القدرةَ حتى نبتسم .. حتى نستطيع الصمودَ في وجه عجلاتِ التجهم .. حتى نرى نصفَ الكوب الممتليء بماء المطر الأخضر. امنحنا الإيمانَ اللازمَ للاستمرارِ والثباتَ عليه وإن لم نفهم. اعصمنا أن نحيد عن الدرب كغنم قاصيةٍ تتخطفها ذئابُ الحيرة. اعصمنا أن نحيد جهلا بما اقتضته حكمتُكَ التي بالغْنا في استكناهها فسقطنا عجزا. هبنا البصيرةَ التي ترى خلف تبدّل الشكولِ والصورِ حقائقَ الأشياء والأحوال. هبنا الحكمةَ المفضيةَ لليقينِ، واليقينَ المفضيَ للحكمةِ حتى لَيرشقَ الواحدُ منهم في القلب ألفَ سهم من سهام الأفكار المسمومةِ فلا يتحوّل. حببنا في الحب فقد خبرناه طوقَ نجاةٍ من لجج الوحشة، وسراجًا في ظلمةِ الوحدة، وحاديًا إلى بلادِ النور. امنحنا القوةَ لتقبّل ما لا قِبلَ لنا بتغييره، والصبرَ الجميلَ عليه حتى يأتي مددك. أعطنا الشجاعةَ الكافية لقولِ "لا" والقدرةَ على تحملِ ما تستتبعه. خفف عنا وطأةَ الحياةِ إذ تقسو، والدنيا إذ تشتد، والأرض إذ تضيق. نجنا من جهل الجهلاء، وظلم الأمراء، ونخاسةِ تجار السوق السوداء. نجنا من الكذابين والمنافقين والمخاتلين والمخادعين والمُرابين والقوادين والمُدّعين وقساةِ القلوب وذوي الصلف. نجنا من أنفسنا، ونجنا من الشرير. اعبر عنا كأسَ الآلامِ وكأسَ الأيامِ الممرورة. اعبر عنا كأسَ الأحلامِ المكسورة. هبنا الطهرَ بعد الخبرة، والبراءةَ بعد التجريب، والنقاءَ بعد الدنس. واغسلنا من خطايانا - التي أثقلتْنا - بالماءِ والثلجِ والبَرَد.
خاتمة: واضعفنا .. جئنا ببابك يا رحيم، عسى ببابك
نلقى سكينتنا ظلالا وارفات في رحابك
فالوحدة الخرساء أضنتنا ولم ترحم صبانا
وتخطفت منا العزاء، ولم تعوضنا رضانا
واضعفنا يا رب
إن لم ترعنا تاهت خطانا*
*ملك عبد العزيز