جوقة: فاضتْ – كنهرٍ – حتى روتْكَ وأتخمتْكَ طميا .. فلما أوشكْتَ على الإنباتِ تراجع المدُّ اوانحسر الماءُ عن روح ملؤها الشروخ. معذبٌ أنت يا تنتالوس .. معذبٌ كعمودِ ملحٍ على شفا الانهيار .. معذبٌ كعمودِ ملحٍ يحاول – عبثا – أن يتماسك.
لم تعد الأيام نفسَ الأيام، ولم تعد الدنيا نفسَ الدنيا. تساقطت قطرات الفرح (وكانت في الأصل قليلةً) فلم يبق في السماء المكفهرة غيرُ طيور الأحزان. كنا صغارا - لم نُؤتَ الحكمةَ - وكانت أحلامنا بالمستقبل متطاولات. مرت الأعوام وتعاقبت النصال على النصال حتى دبّ البياضُ في المفارقِ والوهنُ في الهممِ فأدركْنا استحالةَ الوصول والتحقق، لينتهيَ بنا المطاف قانعين بسَكينة اليأس، متآخين وندوبَ الروح.
خادعنا أنفسَنا – وكنا نعرف منذ البداية أن الأيامَ ضنينةٌ – عن المصير. حلا لنا تجاهلُ منجل الوقت – وكان أكبرَ أعدائنا – وكأن التجاهلَ كافٍ لحل المعضلة. تَقَوَّيْنا على إحساسنا الطاغي بحتمية النهاية بالدعوات الولهى آناءَ الليل وأطرافَ النهار. آمنَّا – في لحظات الإشراق – بإمكانية حدوث المعجزات الصغيرة (والكبيرة) رغم أنه لم يعد زمنَ الأنبياء.
ثم كان أن جاء الجزاء وفاقا فجُزَّتْ أصابعنا المتطلعةُ نحو الشموس وسماءِ الأمنيات، لنعود خائبين إلى التحديق في الفراغ والظلمة.
جوقة: لا شيءَ يوحي بالقيامةِ في زمان الموتِ يا حبي الشهيد
لم يكن حبا قدرَ ما كان سعيا للخلاص. لم يكن هُياما قدرَ ما كان محاولة للصمود في وجه السُعار. كنتُ عكازا وكانت منسأة فتقوَّى الواحدُ منا بالآخر واستمد منه سببا للوجود ولتأكيد الوجود.
اجتاحتْني فلم أعد أستطيع الكتابة – رغم توالي الحادثات – عن شيء سواها. رأيتُها في الوجوه والأشياء ولامستُها في الزوايا والمنحنيات. اشتممتُ ريحها الطهورَ – رغم المسافة – في الهواء وفي أدخنة التبغ والبارود. حتى حبيباتُ الرمال - التي تبعثرها الرياح - قد أخذتْ على عاتقها مهمةَ تشكيل ملامحها كفسيفساء، وكأن الكونَ بأكمله قد تآمر على ربطي إليها بحبل سُريٍّ لا يقبل القطعَ أو الانقطاع.
أقول لكم كلُّ شيءٍ آخذٌ في التبدل. أقول لكم كلُّ شيءٍ آخذٌ في التداعي. أقول لكم كلُّ شيءٍ آخذٌ في الاهتزاز إذ نراه – غيرَ مصدقين - من خلف غشاوة الدمع الذي طال احتباسُه حتى تفصَّد. ومما يُعسِّرُ الأمور أن تكون مُطالَبا بارتداء البسمات في وجوه الآخرين ليروك روحا طائرا، بينما يطحنك الجوى (وأشياء أخرى كثيرةٌ) طحنَ الرحى.
يبدو أن حظوظنا من الدنيا قليلة، إلا أنها لم تكن كذلك حين التقينا – في هويد الليل – ذاتَ شتاءٍ (وأجمِلْ به من شتاء). آفة الأرض أنها تسرع الدوران كلما حاولنا اختلاس الهنيهات لالتقاط الأنفاس، ثم إذا بها تبطيء حين يكون العالم أضيقَ – في العين - من ثقب الإبرة .. وكأنها تعاند الأحلام.
يقولون إن الحياة لا تتوقف عن المسير مهما بلغتْ فداحةُ الخطوب. أقول صدقوا غير أنها لا تعود نفسَ الحياة. يتحول القلب الذي اعتاد التوهج والخفقان إلى مضخة تتعذب من طول النبض. تتحول الشرايين المتوقدة بالحب وبالشعر إلى أوعية لنقل الدماء. تتحول الأيادي - التي ارتعشت في لحظة الملامسة - إلى خطاطيف وكلابات. ثم شيئا فشيئا تذوي الموسيقى في الروح ويموت – داخلنا – الإنسان.
يطل علينا كاظمُ هذا العام باكيا حبيبتَهُ البغداديةَ فيُذكِّرني بقصيدة ابن زريق الذي ارتحل إلى الأندلس مُخَلِّفا وراءه – في العراق – زوجةً يحبها وتحبه. يقول الرجل:
ودَّعتُهُ وبودي لو يودِّعني
صفوُ الحياةِ وأني لا أودِّعُهُ
وكم تشبثَ بي يومَ الرحيلِ ضحىً
وأدمعي مستهلات وأدمعُهُ
لا أكذب الله ثوبُ الصبر مُنخرقٌ
عني بفُرقتِهِ لكنْ أرقِّعُهُ
ليؤكد العهودَ المضروبةَ رغم البعد فيقول:
من عنده لي عهدٌ لا يضيِّعُهُ
كما له عهدُ صدقٍ لا أضيِّعُهُ
نفس المعنى الذي يرمي إليه ابن زيدون في نونيته حين يقول:
دومي على العهد – ما دمنا – محافِظةً
فالحُرُّ من دان إنصافا كما دينا
فما استعضنا خليلا منك يحبسنا
ولا استفدنا حبيبا عنك يُثنينا
ولو صبا نحونا من عُلوِ مطلعِهِ
بدرُ الدجى لم يكن حاشاكِ يُصبينا
أولي وفاءً وإن لم تبذلي صلةً
فالذكرُ يقنعنا والطيفُ يكفينا
يطل علينا كاظمُ هذا العام باكيا حبَّه وجرحَه البغداديين، فأبكي حبي وجرحي القاهريين.
جوقة: هذا هو العالمُ المتبقّي لنا .. إنه الصمتُ والذكرياتُ .. السوادُ هو الأهلُ والبيتُ .. إن البياضَ الوحيدَ الذي نرتجيهِ .. البياضَ الوحيدَ الذي نتوحدُ فيهِ .. بياضُ الكفن.