Wednesday, December 07, 2011,16:14
دفاعًا عن المُخالف

يُفترض بالتفلسف النزيه أن يبتدىء بالمقدمات المنطقية سائرا على استقامتها – بتجرد – وصولا إلى النتائج ، أيا ما كانت هذه الأخيرة ، ولذلك كانت واحدة من أهم النقوضات التى وُجهت للفلسفة الدينية – وأتحدث هنا من وجهة نظر فلسفية – أنها تنطلق – ابتداء – من نتيجة مسبقة يتم دفع خط التفلسف دفعا باتجاهها ، حتى أنه إذا ما حاد عن هذه النتيجة ، اعتبر الفيلسوف الدينى أن ثمة خطأ فى فلسفته ، وأعاد تقويمها من جديد حتى يحصل على النتيجة المقررة سلفا .

غاية التفلسف فى هذه الحالة قد يكون نفى التعارض بين العقل والنقل ، فيبدأ الفيلسوف رحلة التفلسف "العقلىّ" موجها لحركتها فى اتجاه النتيجة "النقلية" التى يعرفها مسبقا ، وبهذا يثبت اتفاق ما جاء به الشرع وما يفضى إليه العقل الحر بلا تعارض . وهنا يكمن الخلل ، وهو خلل من وجهة النظر الفلسفية .

أقول : وهى الإشكالية عينها – وإن جاءت معكوسة هذه المرة – التى تنخر فى التركيبة العقلية لكثير من مسلمى اليوم عند تعاطيهم لكثير من القضايا والأحداث ، حتى أن المرء ليزعم – مطمئنا – أن بعض أقطاب العمل الإسلامى أنفسهم لم يسلموا من فخاخ هذه الإشكالية المغوية .

ولنعد إلى صياغة مفتتح الكلام : يفترض بالاجتهاد النزيه (عن الهوى) أن يبتدىء بالنص الدينى الذى هو أساس التشريع ، ومناط الحل والإباحة ، مائلا معه أين مال ، وصولا إلى النتائج ، أيا ما كانت هذه الأخيرة . فأنت لا تدخل إلى النص الدينى – المتعلق بالربا مثلا – وفى قناعتك تصور مسبق عن كنه الحكم ، بل تعمد إليه – النص – لتستدل بهديه على الحكم الذى يريده الشارع . وبناء على ما يصلك من نصوص – تتعلق بالربا فى هذه الحالة – فأنت تعرف حله أو حرمته .

يُفترض بالحال أن تكون كذلك ، غير أن عقودا طويلة من تنحية الدين وفصله عن الثقافة قد آلت بطريقة المسلمين المعاصرين فى الفكر إلى استيراد ما تواضع عليه فلاسفة أو أمم أخرى بوصفه صحيحا وبدهيا ، ثم محاولة التأصيل له – عنوة – بِلىّ عنق النص الدينى ليتفق وما يعتقدون .

ولتقريب الفكرة أطرح الديمقراطية مثالا ، ومعلوم أن الديمقراطية لم تنشأ – بالأساس – فى ربوع المسلمين ، بل ترجع – فى نشأتها – إلى قدماء اليونان وفلاسفتهم ، حتى صارت – فى عالم اليوم – من البدهيات التى تُطلب لذاتها دون مجرد طرح فكرتها – من قِبل بعض من يتبنونها – للنقاش . فإذ تقول لأحدهم إنك ترفض الديمقراطية – مثلا – يسارع إلى اتهامك بلا تفكير أو دليل وكأن الديمقراطية فى ذاتها مسلمة لا تحتاج إلى إثبات . ثم إنك لو حاولت تفنيدها يسارع ثانية إلى الإشارة إلى مبدأ الشورى فى الإسلام ، والسؤال : هل تَبَنّى الديمقراطية لأن النص الدينى يدل عليها ، أم راقته سلفا فبحث عن تأصيل من النص الدينى يلويه – عسفا – ليدل عليها؟ وقس على ذلك أمورا كثيرة كتلك التى تتعلق بالحريات وحقوق الإنسان .

مرت على البشر أزمان اعتقدوا فيها باكتساب الحرية ، حتى أصّلت الفلسفة للحرية كشىء طبيعى يلتصق بالإنسان منذ مولده فلا يحتاج بعدها إلى اكتسابه . راحت عقود وجاءت عقود فأضحت الحرية – كحق طبيعى – مما تواضع عليه الناس وتقبلوه قبول المسلمات . ولنطرح سؤالا جدليا : ماذا لو جاء النص الدينى بما يدل على خلاف ذلك؟ هل تملك الجسارة الكافية لاتباعه حتى آخر المطاف أم تحاول تأويله كل تأويل فاسد ليتفق وما تبنّيتَ من فلسفة وضعية؟

أعرج – الآن – إلى النقطة الهدف من وراء هذا التقديم . قامت الثورة المصرية فى يناير الفائت فتقبلها أغلب الناس – على نفس النهج – قبول المسلمات ولسان حالهم "الثورة صواب ابتداء" ، رغم أن هذا الابتداء بحاجة إلى مقدمات تؤصل له . ولنعد إلى طرح السؤال : هل تملك الجسارة الكافية لقبول اتباع النص الدينى إلى النهاية حتى لو أفضى إلى رفض الثورة كآلية للتغيير؟ إننى لا أشكك هنا فى المشروعية الدينية للثورة كفكرة ، بل أحاول تفنيد المنطق المغلوط الذى يجعل من الثورة نفسها مرجعية نقيّم على أساسها الصواب من الخطأ ، ونحدد الخيّر من الشرير ، فمن ساندها كان مصيبا ، ومن لم يفعل كان على خطر عظيم .

انقسم أنصار السلفية – إزاء الثورة – إلى مؤيد ومتردد ومعارض ، والذى يعنينى – الآن – هو المعارض الذى تُكال له التهم – بلا تفكير – صباح مساء ، إذ لا يحاكمه أحد على أساس مرجعية النص الدينى التى أحسبها (أو هكذا ينبغى أن تكون) محل اتفاق بين كل الأطراف ، بل يُحاكم بناء على الثورة نفسها بعد أن أصبحت – جهلا – مرجعيةَ نفسها ، لتصير عبارة "ضد الثورة" تهمة فى ذاتها قائمة بذاتها حجتها من ذاتها . تناول معارضوا الثورة النص الدينى الذى بين أيديهم فلم يجدوا فيه ما يدل على مشروعيتها فأمسكوا ، وليس من العقل فى شىء أن نحاكمهم على أساس الثورة التى هى القضية محل النظر ، تماما كوصفى بالجبن لأننى لا أقرب الخمر ، رغم أننا لم نتفق – أصلا – على مشروعية الخمر التى هى محل النظر ، فنجعل منها خصما وحكما فى نفس الوقت .

أتحمس لهذه الثورة ، لكننى أتفهم وأتقبل من يرفضونها حتى الآن .

 
Posted by Muhammad | Permalink | 2 comments