Monday, June 14, 2010,11:21
عن الوطن .. وأشياء أخرى

يبـدو أن الدنيـا – كمـا يقولـون – صغيـرة ، وأن الماضـى لـن يتوقـف – مهمـا تجـاهلنـاه – عن معـاودة الظهـور .

كنت طالب طـب وكان لى رفيق يجيد الشعر . هذا الذى سبقت إشارتى إليه هنـا . ذهـب – ذات صبـاح – إلى القارة الأوربية فانقطعت بيننا الأخبار . مر علىّ زمن افقتدت فيه التوازن وضاع منى القرار ، حتى أذن الله فكانت محاولتى لتدارك بعض ما راح . خلاصة القول أننى عدت إلى استئناف الدراسة – فى حقل الأدب الإنجليزى هذه المرة – جنبا إلى جنب أداء خدمتى العسكرية . ولما كانت العربية لغتنا الأم ، فقد رأى أساتذتنا – فيما يبدو – وجوب تدريس بعض موضوعاتها لنا – طلاب الإنجليزية – حتى لا تنقطع الوشائج .

ومبلغ الغرابة فى القصة أنى وجدت ذكر صاحبى – المشار له سلفا – فى واحد من الموضوعات المقررة هذا العام ، ليكون علىّ أن أدرس اليوم شعر رفيق الأمس ، الذى عرفت من المقالة أن له ديوانا منشورا بعنوان "العصافير تنقر السور" ، وذلك فى معرض حديث الكاتب عن تطور الرؤية الوطنية فى الشعر المصرى المعاصر ، وتحديدا فى الجزء الذى يعالج فيه تيمة – يراها – مشتركة بين شعراء القرن الحادى والعشرين ، ألا وهى الاغتراب ، مُرجعا ذلك إلى وضع جيل الشباب الحالى الذى يتضح بؤسه حال مقارنته بأوضاع الشعراء السابقين على مدى القرنين المنصرمين ."فقد حيل بينه وبين الإحساس النقىّ بالوطنية المصرية ، نتيجة الأوضاع السياسية والاجتماعية المعاصرة ، تلك الأوضاع التى أفضت إلى لون من الشك فى ثبات الوطن على وضعيته المحفوظة فى نفـوس أبنائه" ، الأمـر الذى عبـر عنه المـؤرخ يونان لبيب رزق بـ "حصار المكانة" .

يقول الدكتور/ إبراهيم محمد منصور : "أما الشاعر الأخير فى منظومة شعراء القرن الحادى والعشرين ، فهو محمد دراز ، وهو حالة خاصة ، فحسبما عرّف الشاعر بنفسه فى نهاية ديوانه " العصافير تنقر السور" فهو حاصل على بكالوريوس الطب من جامعة طنطا ، ولكنه ترك مهنـة الطـب ليعمل عمـلا يـدويـا فى باريس ، مرغما لا مختارا" . وفى هذا يكتب محمد :

          محمد
يا أيها البلد الذى ...
ما كنت تاركه سوى ...
أن أرغمونى العشب والخبز الحلال
والشعر لا يكفى إداما للبطون الخاويات
الطب لا يكفى إداما للبطون الخاويات
وليس يرتق جلدنا
أو يملأ الشرخ الذى قد شق خارطة الجسد
نهر من الألم الحسيرة فوقه
دلتا خراب
وألف قيد بين ساقين وسد
          دراز

يوشك النداء أن يتناص وقول النبى "والله إنك لأحب بلاد الله إلى نفسى , ولولا أن قومك أخرجونى ما خرجت" فمحمد – كالنبى – فى خروجه مرغم ، رغم أن ما يطلبه من الوطن ليس بالشىء الكثير "العشب والخبز الحلال" ، لكن ما يملكه الشاعر "الشعر – الطب" لم يعد سلعة رائجة فى سوق هذا الوطن الذى اختلفت صورته وتبدلت مدلولات رموزه ، فالنيل كما يتبدى عند الكلاسيكيين – كشوقى وحافظ – ليس هو النيل كما يتبدى عند الشعراء الجدد . ويكفى أن نضع بيتا من "نشيد الجيش" – الذى كتبه فاروق جويدة – فى مقابل سطور صاحبنا دراز لتظهر فداحة التناقض .

يقول جويدة : وتنساب يا نيل حرا طليقا .. لتحكى ضفافك معنى النضال

فنيل جويدة الطليق المرتبط بالنضال والمجد ليس هو نفسه نيل دراز المكبل بلا مهرب بين ساقين – من خراب – وسد اختلفت صورته هو الآخر فلم يعد رمزا للنماء والتحدى والإرادة ، كما يؤكد اختيار الشاعر لهذه القافية الباترة "السد" معنى الانسداد وانقطاع السبل .

إن وقوع القطعة بين شقى اسمه "محمد .. دراز" لَيعكس حالة التشظى التى يعيشها الشاعر ، وأغلب الظن أن الوطن نفسه هو سبب هذه الحالة ، فهو ما يفصل بين ذاته "محمد" وذاته "دراز" .

يعود محمد إلى تأكيد معنى الاغتراب فى قصيدته "شعاع أخضر عجوز تائه" – ولست أراه يقصد بالعنوان إلا نفسه – بتصوير وطن متعال يقسو على أبنائه الذين لم يعودوا يمتلكونه ، فهو ليس وطننا ، بل وطن "الآخرين" . يقول دراز :

يا أيها الوطن المرصع بالنجوم اهبط
يا أيها الوطن المرصع بالنجوم اهبط قليلا
كى نراك
من ذا يسبح باسمك المنسىّ غير العاكفين
على ثراك
فاهبط قليلا كى نراك

لكن هذا الوطن لا ينسى كادحيه فى لحظات الأزمة ، حين يفر ناهبوه ، ولا يبقى له سوى كادحيه الذين لم يذوقوا لحم الضان . فهؤلاء يُدعون إلى الموت ، رغم أنهم لم يُدعوا – من قبل – إلى المجالسة . وليت هذه الحالة من تعالى الوطن قرينة الريادة ، بل على النقيض من ذلك ، هو وطن منسىّ بلا مكانة ، مستأسد على الأهل ، للأعداء ذَنَب .

ربما تضيق الدنيا أكثر فأكثر ، فأعود إلى لقاء دراز فى القريب . دعونا ننهى بهذا المشهد :

أشار الولد الظمآن
للرجل العارف : قطرة ماء
أوقف سيارته
قال له من خلف زجاج أسود :
ارسم وطنك
ضحك الولد قليلا .. سعل كثيرا
غاب كثيرا فى الدخان الأسود
رسم النهر ..
بلل شفتيه ..
ومات

 
Posted by Muhammad | Permalink | 9 comments
Tuesday, June 08, 2010,08:37
أحلام الفارس القديم

يصدر ثالث دواوين صلاح عبد الصبور "أحلام الفارس القديم" بعد فشل تجربة زواجه الأول . والمتتبع لتجليات الحب كما تبدو فى شعر صلاح يعرف ما قد تحمله هذه التجربة من ألم لا يسهل – إن أمكن – محوه . يستهل عبد الصبور ديوانه بـ "مفتتح" يعتذر فيه لقرائه عن كثافة الحزن فى قصائد المجموعة ، ونحن وإن اعتدنا الحزن من شاعر اتخذت إحدى قصائد أولى دواوينه "الناس فى بلادى" من هذه الكلمة – الحزن – عنوانا لها ، إلا أن طبيعة الحزن فى أحلام فارسه تبدو مغايرة لطبيعته التى خبرناها معه فى ديوانيه الأولين . فالشجن الذى ينسرب فى قصيدة كـ "الشىء الحزين" من ديوانه "أقول لكم" ليس هو ما نستشعره حين يقول فى "أغنية إلى الله" : حين تصير الرغبات أمنيات/لأنها بعيدة المطال فى السما/ثم تصير الأمنيات وهما/لأنها تقنعت بالغيب والضباب/وهاجرت مع السحاب/واستوطنت أعالى الهضاب/ثم يصير الوهم أحلاما/لأنه مات ، فلا يطرق سور النفس إلا حين يظلم المساء/كأنه أشباح ميتين من أحبابنا/ثم يصير الحلم يأسا قاتما وعارضا ثقيلا/أهدابنا .. أثقل من أن ترى/وإن رأت فما يرى العميان؟/أقدامنا .. أثقل من أن تنقل الخطى/وإن خطت تشابكت ، ثم سقطنا هزأة كبهلوان .

يقسم الشاعر ديوانه إلى كراسات أربع ، تندرج أولاها تحت عنوان "من أناشيد القرار" ، والتى يهديها "إلى ن. ى." .. زوجته الأولى ، ليأتى الكراس الثانى تحت عنوان "أغنيات تائهة" ، فالثالث "من أغانى الخروج" ، لينتهى الديوان – أخيرا – بـ "صحائف من مذكرات مهمة" .

يبدأ صلاح عبد الصبور قصيدته التى يحمل الديوان عنوانها بالتمنى الذى يصبح مرادفا للحلم فى مقاطع يستهلها بصيغة "لو أننا" :

لو أننا كنا كغصنى شجرة ...
لو أننا كنا بشط البحر موجتين ...
لو أننا كنا نجيمتين جارتين ...
لو أننا كنا جناحى نورس رقيق ...

فى أربع صور كلية تطمح إلى البراءة ، مع استخدام مطرد للـ "معا" وللـ "نا" يؤكد التوحد بالمحبوب الذى لا تحصل البراءة إلا بحضوره شجرةً وموجةً ونجيمةً وجناحَ نورس . هذا الحضور الذى يعيد تشكيل مفردات تقترن بمعانى سلبية فى قصائد صلاح الأخرى . فالعرى فى قاموسه يرتبط بالوحدة والعجز والضعف . يقول : ماذا يهب العريان إلى العريان/إلا الكلمة ، إذ ما الذى يمكن للعارى/المتجرد أن يمنحه سواها؟ لكن العرى فى الحلم الأول من أحلام الفارس القديم يرتبط بالدفء والألفة : وفى الخريف نخلع الثياب نعرى بدنا/ونستحم فى الشتا يدفئنا حنونا . يقول أدونيس : "الماء أمومة" ، فتستحيل رغبة التعرى والاستحمام مع المحبوب فى المطر حنينا إلى براءة الخروج من الرحم ، وتكتسب الأشياء نقائض طبائعها : ونستحم فى الشتا يدفئنا حنونا .

لو أننا
لو أننا
لو أننا ، وآه من قسوة "لو"
يا فتنتى ، إذا افتتحنا بالمنى كلامنا
لكننا ..
وآه من قسوتها "لكننا"
لأنها تقول فى حروفها الملفوفة المشتبكة
بأننا ننكر ما خلفت الأيام فى نفوسنا
نود لو نخلعه
نود لو ننساه
نود لو نعيده لرحم الحياة


يستيقظ الشاعر الهارب إلى "لو" من قسوة "لكن" ، فيرتد حسيرا من الحلم بما له من براءة إلى الواقع بما فيه من تجريب لا يملك إزاءه سوى التمنى ، ليتضح الشق الثانى لثنائية البراءة/التجريب ، الحلم/الواقع :

لكننى يا فتنتى مجرب قعيد
على رصيف عالم يموج بالتخليط والقمامة
كون خلا من الوسامة
أكسبنى التعتيم والجهامة
حين سقطت فوقه فى مطلع الصبا


إن التعتيم والجهامة ليسا سوى نتيجة طبيعية للسقوط (بما له من ارتباطات دينية) فوق رصيف عالم يموج بالتخليط والقمامة (التجريب) ، وإذ يصرح الشاعر بزمن السقوط الذى هو مطلع الصبا فإنه يربط – ضمنا – الزمن السابق للسقوط (الطفولة) بنقائض التخليط وفقدان الوسامة (البراءة) . غير أن الشاعر لا يطيق الوقوف طويلا بأطلال الواقع فيعود مرتحلا إلى زمن البكارة ، قبل أن تستبيح بكارته الأقدام والشموس والصقيع :

قد كنت فيما فات من أيام
يا فتنتى محاربا صلبا وفارسا همام
من قبل أن تدوس فى فؤادى الأقدام
من قبل أن تجلدنى الشموس والصقيع


ليؤكد فردوسه المفقود فى البكاء :

وكنت إن بكيت هزنى البكاء

وفى الضحك :

وكنت إن ضحكت صافيا ، كأننى غدير
يفتر عن ظل النجوم وجهه الوضىء


هذا الفردوس المفقود الذى يضفى – بمقارنته بالواقع – مرارة يتفجر بها سؤال :

ماذا جرى للفارس الهمام؟

ولأن الشاعر على دراية بحجم الفارق وكم الخسارة ، فإنه لا يتردد فى إبرام هذه الصفقة :

يا من يدل خطوتى على طريق الدمعة البريئة
يا من يدل خطوتى على طريق الضحكة البريئة
لك السلام
لك السلام
أعطيك ما أعطتنى الدنيا من التجريب والمهارة
لقاء يوم واحد من البكارة


وصلاح عبد الصبور غير متفرد فى الإتيان بهذا المعنى ، إذ الأمنية قديمة قدم حنين الإنسان إلى نقائه الأول . يقول إبراهيم ناجى : آه من يأخذ عمرى كله/ويعيد الطفل والجهل القديما . ويقول الشاعر الإنجليزى وليك بليك (صاحب أغانى البراءة والتجريب) : من يبيعنى تجربتى بأغنية ، وحكمتى برقصة فى الطريق؟

إن الشاعر الذى أسمى محبوبته مسيحا صغيرا فى ديوانه الأول لَيعودُ إلى الإيمان بها خلاصا وحيدا من هذا الكمين :

لا ، ليس غير "أنت" من يعيدنى للفارس القديم
دون ثمن
دون حساب الربح والخسارة


وليس ذلك إلا لأنها قد كبرت خارج هذا الزمن وبعيدا عن رصيف هذا العالم :

صافية أراك يا حبيبتى كأنما كبرت خارج الزمن

ليظل خلاصه مرهونا بقدرتها على المنح وقدرة حبها على خلع ما خلفت الأيام فى نفسه وإعادة تدويره فى رحم الحياة :

وحينما التقينا يا حبيبتى أيقنت أننا
مفترقان
وأننى سوف أظل واقفا بلا مكان
لو لم يعدنى حبك الرقيق للطهارة


ويكون عود على بدء :

فنعرف الحب كغصنى شجرة
كنجمتين جارتين
كموجتين توأمين
مثل جناحى نورس رقيق
عندئذ لا نفترق
يضمنا معا طريق
يضمنا معا طريق

 
Posted by Muhammad | Permalink | 0 comments